( ويجوز ) لمالك جدار ( فتح الكوات ) لبعض أهله ولغيرهم وهي بفتح الكاف أفصح من ضمها الطاقات وفتح شباك ولو لغير الاستضاءة ; لأنه تصرف في ملكه ، ولا فرق بين أن يشرف على حريم جاره أو لا كما في البيان عن الشيخ أبي حامد لتمكن الجار من دفع الضرر عنه ببناء سترة أمام الكوة وإن تضرر صاحبها بمنع الضوء منها أو النظر ، ولأن صاحبها لو أراد رفع جميع الحائط لم يمنع منه فتقييد الجرجاني بما إذا كانت عالية لا يقع النظر منها على دار جاره ضعيف ، والأوجه أن الكوة لو كان لها غطاء أو شباك يأخذ شيئا من هواء الدرب منعت ، وإن كان فاتحها من أهله خلافا للسبكي ( والجدار ) الكائن ( بين المالكين ) لدارين ( قد يختص به ) أي بملكه ( أحدهما ) ويكون ساترا للآخر فقط ( وقد يشتركان فيه فالمختص ) به أحدهما ( ليس للآخر ) [ ص: 405 ] ولا لغيره المفهوم بالأولى تصرف فيه بما يضر مطلقا فيحرم عليه ( وضع الجذوع ) أي الأخشاب ، وضع جذع واحد ( عليه بغير إذن ) مالكه ولا ظن رضاه ( في الجديد ، ولا يجبر المالك عليه ) لخبر { لا ضرر ولا ضرار في الإسلام } وخبر ابن عباس { لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس } وقياسا على سائر أمواله وأما خبر الصحيحين الذي استدل بظاهره القديم القائل بجواز الوضع من غير إذنه وأنه ليس له منعه وهو { لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره } .
فأجيب عنه بأنه محمول على الندب لقوة العمومات المعارضة له ، ويؤيده إعراض من أعرض في زمن أبي هريرة وبأن الضمير في جداره لجاره لقربه : أي لا يمنعه أن يضع خشبه في جدار نفسه وإن تضرر به من جهة منع الضوء والهواء ورؤية الأماكن المستطرفة ونحوها ويتأيد بأنه القياس الفقهي والقاعدة النحوية فإنه أقرب من الأولى فوجب عود الضمير إليه ، وللقديم شروط :
أن لا يحتاج مالكه إلى وضع جذوعه عليه ، وأن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدران ، ولا يبني عليه أزجا ، ولا يضع عليه ما يضره ، وأن تكون الأرض له نص عليه ، وأن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد أن يسقفها أو لا يملك إلا جدارا واحدا ولا فرق على القديم بين أن يحتاج إلى فتح شيء في الحائط لتدخل فيه الجذوع أم لا ، صرح به الماوردي وابن الصباغ وغيرهما ; لأن رأس الجذع يسد المنفتح ويقوي الجدار ، بخلاف فتح الكوة ونحوها فإنه لا يجوز ، وقوله ولا يجبر المالك مفرع على الجديد كما قاله المنكت مجيبها به عن قول المعترض : إنه يفهم أنه مجزوم به ، وأن القولين إنما هما في الجواز ابتداء وليس كذلك فلو حذفه كان أولى ، وفرض المصنف الخلاف في الجدار بين المالكين قد يخرج الساباط إذا أراد بناءه على شارع أو درب غير نافذ ، وأن يضع طرف الجذوع على حائط جاره المقابل فإنه لا يجوز إلا بالرضا قطعا كما قاله المتولي وغيره ; لأن هذا الجدار ليس بين مالكين بل بين مالك وشارع ( فلو رضي ) المالك بوضع جذوع أو بناء على جداره ( بلا عوض ) وقلنا بعدم الإجبار ( فهو إعارة ) [ ص: 406 ] لصدق حدها عليه ، ويستفيد بها المستعير الوضع مرة واحدة حتى لو رفع جذوعه أو سقطت بنفسها أو سقط الجدار فبناه صاحبه بتلك الآلة لم يكن له الوضع ثانيا في الأصح ; لأن الإذن إنما تناول مرة ولو وضع أحد مالكي الجدار جذوعه عليه بإذن شريكه ثم انهدم ذلك البناء ، ففي فتاوى القفال تجوز له إعادة الجذوع من غير إذن شريكه .
قال الأذرعي : والمتبادر من إطلاق الشيخين وغيرهما أنه لا فرق بين الجدار المختص والمشترك في أنه لا تجوز له إعادة الجذوع إلا بإذن جديد على الأصح ، ويشبه أن يكون ما قاله القفال وجها ثالثا ، ومحل ما ذكره المصنف إذا وضعت أولا بإذن ، فلو ملكا دارين ورأيا خشبا على الجدار ولا يعلم كيف وضعت فإذا سقط الحائط فليس له منعه من إعادة الجذوع بلا خلاف ; لأنا حكمنا بأنه وضع بحق وشككنا في المجوز للرجوع ، ولو أراد صاحب الحائط نقضه فإن كان مستهدما جاز ، وحكم إعادة الجذوع ما سبق وإلا فلا ، كذا ذكره في زيادة الروضة . ( وله الرجوع قبل البناء عليه ) قطعا ( وكذا بعده في الأصح ) كسائر العواري .
والثاني لا رجوع له بعد البناء ; لأن مثل هذه العارية إنما يراد بها التأبيد ، فأشبه ما إذا أعار للدفن وما رجحه تبعا للشرح والروضة هنا هو المعتمد وإن قال الرافعي في شرحيه في الكلام على بيع الشجر خلافا ، ويمكن الجمع بين كلامي الرافعي فإنه لم يتعرض هناك لمنع الرجوع بل قال : وقد يستحق غير المالك المنفعة لا إلى غاية كما إذا أعاره جداره ليضع عليه الجذوع ،
فلعل مراده أنه لا يشترط بيان المدة ( وفائدة الرجوع تخييره بين أن يبقيه ) أي الموضوع ( بأجرة أو يقلع [ ص: 407 ] ذلك ويغرم أرش نفسه ) وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا كما في إعارة الأرض للبناء ، قالا : ولا تجيء الخصلة الثالثة وهي التملك بالقيمة ; لأن الأرض أصل فجاز أن يستتبع البناء ، والجدار تابع فلا يستتبع ، كذا قاله البغوي هنا ، ولا يخالف ما ذكر هنا ما يأتي في العارية من أنه لو أعار الشريك حصته من أرض البناء ثم رجع لا يتمكن من القلع مع الأرش لما فيه من إلزام المستعير تفريغ ملكه عن ملكه ; لأن المطالبة بالقلع هنا توجهت إلى ما هو بملك المعير بجملته ، وإزالة الطرف عن ملك المستعير جاءت بطريق اللازم ، بخلاف الحصة من الأرض فنظير ما هناك إعارة الجدار المشترك ( وقيل فائدته طلب الأجرة فقط ) في المستقبل ; لأن ضرر القلع يتعدى إلى خالص ملك المستعير ; إذ الجذوع إذا ارتفعت أطرافها عن جدار لا تستملك على الجدار الآخر والضرر لا يزال بالضرر .


