الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال : ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد صلى الله عليه وسلم وحزبه .

يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام ، وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجل المتقين .

، لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ، ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكلم ، فعاد في البكاء ، فلما أكثر البكاء قيل له أكل : هذا من أجل هذه الشربة ؟! قال : نعم ، بينا أنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه أحد في البيت غيري ، فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول : إليك عني ، فقلت له : فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحدا ، فمن تخاطب فقال : هذه الدنيا ، تطاولت إلي بعنقها ورأسها ، فقالت لي يا محمد خذني ، فقلت : إليك عني ، فقالت : إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك ، فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا قوم فهؤلاء الأخيار بكوا ؛ وجلا أن تقطعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شربة من حلال ، ويحك ! أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات ، لا تخشى الانقطاع ؟! أف لك ! ما أعظم جهلك ! ويحك ! فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق ، ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ، ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ، ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين ، وعن رسول رب العالمين ، ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتبسين في أهوال يوم الدين .

فتدبر ، ويحك ! ما سمعت وبعد .

فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قنع ، بالقليل ، زاهد في الحلال ، بذول لمالك مؤثر على نفسك ، لا تخشى الفقر ، ولا تدخر شيئا لغدك ، مبغض للتكاثر والغنى ، راض بالفقر والبلا ، فرح بالقلة والمسكنة ، مسرور بالذل والضعة ، كاره للعلو والرفعة ، قوي في أمرك ، لا يتغير عن الرشد قلبك ، قد حاسبت نفسك في الله وأحكمت ، أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ، ولن توقف في المسألة ولن ، يحاسب مثلك من المتقين .

وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ، ويحك أيها المغرور ! فتدبر الأمر وأمعن ، النظر ، أما علمت أن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار أسلم للدين ، وأيسر للحساب ، وأخف للمسألة ، وآمن من روعات القيامة ، وأجزل للثواب وأعلى ، لقدرك عند الله أضعافا .

؟! بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال : « لو أن رجلا في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان الذاكر أفضل .

وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر ، قال : تركه أبر به .

التالي السابق


(وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ما يسرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد -صلى الله عليه وسلم- وحزبه) رواه صاحب القوت، عن سعيد بن عامر بن جذيم -رضي الله عنه- نحوه .

(يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين، وكونوا وجلين) أي: خائفين (من التخلف والانقطاع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وجل المتقون، لقد بلغني أن بعض الصحابة عطش فاستسقى) أي: طلب [ ص: 223 ] (فأتي بشربة من ماء وعسل) أي: ماء ممزوج بالعسل (فلما ذاقه خنقته العبرة، ثم بكى وأبكى) الحاضرين (ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكلم، فعاد في البكاء، فما زال يبكي حتى مسح الدموع عن وجهه، وذهب فتكلم، فعاد في البكاء، فلما أكثر البكاء قالوا: كل هذا من أجل هذه الشربة؟! قال: نعم، بينا أنا يوما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وما معه أحد في البيت غيرى، فجعل يدفع عن نفسه ويقول: إليك عني، فقلت له: فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحدا، فمن تخاطب؟ قال: هذه الدنيا، تطاولت إلي بعنقها ورأسها، فقالت لي يا محمد خذني، فقلت: إليك عني، فقالت: إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك، فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

قال العراقي: رواه البزار والحاكم من حديث زيد بن أرقم، قال: "كنا عند أبي بكر فدعا بشراب، فأتي بماء وعسل" الحديث، قال الحاكم: صحيح الإسناد .

قلت: بل ضعيف، وقد تقدم قبل هذا الكتاب. انتهى .

قلت: وكأنه يشير إلى أن في سنده عبد الواحد بن زيد، حدثنا أسلم، عن مرة الطبيب، عن زيد بن أرقم: وعبد الواحد بن زيد قال البخاري والنسائي: متروك .

وأخرجه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه، وقد تقدم سياقه، وقد روي نحو ذلك عن عمر -رضي الله عنه- رواه جعفر بن سليمان، عن حوشب، عن الحسن قال: "أتي عمر بشربة عسل، فذاقها، فإذا ماء وعسل، فقال: اعزلوا عني حسابها، اعزلوا عني مؤنتها" وقد تقدم أيضا .

ويروى عن عمر أيضا أنه قال: "لولا مخافة طول الحساب لأمرت بجمل يشوى لنا في التنور".

(يا قوم فهؤلاء الأخيار بكوا؛ وجلا أن تقطعهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شربة من حلال، ويحك! أنت في أنواع النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات، لا تخشى الانقطاع؟! أف لك! ما أعظم جهلك! ويحك! فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال) أي: شدائد (جزعت منها الملائكة والأنبياء) عليهم السلام مع جلالة قدرهم .

(ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق، ولئن أردت الكثرة) من أعراض الدنيا (لتصيرن إلى حساب عسير، ولئن لم تقنع بالقليل) من الدنيا (لتصيرن إلى وقوف طويل) بين يدي رب جليل (وصراخ وعويل، ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتنقطعن عن أصحاب اليمين، وعن رسول رب العالمين، ولتبطئن عن نعيم المتنعمين) في دار النعيم .

(ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتبسين في أهوال يوم الدين، تدبر -ويحك!- ما سمعت) واجعله في تامور قلبك لترشد .

(وبعد فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف، قنع بالقليل، زاهد في الحلال، بذول لمالك) أي: كثير البذل له (مؤثر على نفسك، لا تخشى الفقر، ولا تدخر شيئا لغدك، مبغض للتكاثر والغنى، راض بالفقر وبالبلاء، فرح بالقلة والمسكنة، مسرور بالذل والضعة، كاره للعلو والرفعة، قوي في أمرك، لا يتغير عن الرشد قلبك، قد حاسبت نفسك في الله، وأحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله، ولن توقف في المساءلة، ولا يحاسب مثلك من المتقين، وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله، ويحك أيها المغرور!

فتدبر الأمر، وأحسن النظر، أما علمت أن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والفكر والاعتبار أسلم للدين، وأيسر للحساب، وأخف للمساءلة، وآمن من روعات القيامة، وأجزل للثواب، وأعلى لقدرك عند الله أضعافا؟!

بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال: "لو أن رجلا في حجره دنانير [ ص: 224 ] يعطيها) للمحتاجين (والآخر يذكر الله لكان الذاكر) لله (أفضل) وهذا قد روي مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "لو أن رجلا في حجره دراهم يقسمها وآخر يذكر الله كان الذاكر أفضل" رواه ابن شاهين في الترغيب في الذكر، وفيه جابر أبو الوازع، روى له مسلم، وقال النسائي: منكر الحديث .

(وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر، قال: تركه أبر به) رواه صاحب القوت عن الحسن.




الخدمات العلمية