الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان وجوب التوبة وفضلها .

اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات ، وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته ، وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنيا عن قائد يقوده في كل خطوة ، فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه وإما بصير يهدي إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام ، فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب الله أو سنة رسوله ، وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر ، وخطاه قاصرة ، ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان وهو ، لشدة نور باطنه يجتزئ بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضيء ، ولو لم تمسسه نار فإذا ، مسته نار فهو نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة ، فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى التوبة ما هي ، ثم إلى الوجوب ما معناه ، ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة ، فلا يشك في ثبوته لها ، وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجبا معنى وقول القائل صار واجبا بالإيجاب حديث محض فإن ما لا غرض لنا آجلا وعاجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به ، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه ، فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أن ، لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى وأن ، كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني والإكباب ، على حب ما لا بد من فراقه قطعا ، وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال بالكلية على الله طلبا للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله واتباع ، لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ، وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم ; فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد ، وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم ، فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب وهكذا ، يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة ، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله ، وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ، وهذا أمر على العموم وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا الآية ومعنى النصوح الخالص لله تعالى خاليا عن الشوائب مأخوذ من النصح ويدل على فضل التوبة قوله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال عليه السلام : « التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر ، والعطش ، أو ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ ، فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وفي بعض الألفاظ قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله : أنا ربك ، وأنت عبدي ويروى عن الحسن قال : لما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا : يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام : يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي ، فأوحى الله إليه يا آدم ، ورثت ذويك التعب والنصب ، وورثتهم التوبة ، فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك ومن سألني المغفرة لم أبخل عليه لأني قريب مجيب يا آدم ، وأحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين ، ودعاؤهم مستجاب .

التالي السابق


(فصل في بيان وجوب التوبة وفضلها)

(اعلم) أرشدك الله تعالى (أن وجوب التوبة ظاهر بالآيات والأخبار، وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته، وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدر على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل) وشبهاته (مستغنيا عن قائد يقوده في كل خطوة، فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوة) فهو عاجز عن السلوك فلا قائد، (وإما بصير يهدي) أي: يرشد إلى أول الطريق، (ثم) بعد ذلك (يهتدي [ ص: 504 ] بنفسه) في سلوكه، ويكفيه أول الهداية، (وكذلك الناس في) سلوك (طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام، فمن قاصر) في سلوكه (لا يقدر على مجاوزة التقليد) للغير (في خطوة فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم) يرفعه أو يضعه (نصا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما يعوزه بذلك) ، ويعسر عليه دركه، (فيتحير) في سيره، (فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده) أي: حظه (مختصر، وخطاه قاصرة، ومن سعيد) موفق (شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه يتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق مغوصة) بالغين المعجمة، وفي نسخة بإهمالها أي: صعبة، (وقطع عقبات) أي: ثنيات (متعبة) في طلوعها والنزول عنها (فيشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان، فهو لشدة نور باطنه يجتزي) أي: يكتفي (بأدنى كمال فكأنه يكاد زيته يضيء، ولو لم تمسسه نار، وإذا مسته نار فهو نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء) فإن الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنوار المعارف، وبعضها يكون في شدة الصفاء، كأنه يتنبه عن نفسه بغير مدد من خارج، فبالحري أن يكون نورا على نور .

(وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة، فمن كان هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى التوبة ما هي، ثم إلى الوجوب ما معناه، ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة، فلا يشك في ثبوته لها، وذلك بأن يعلم أن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد) ، وهي الفوز بلقاء الله (والنجاة من هلاك الأبد) ، وهي البعد عن حضرة الله، (وأنه لولا تعلق السعادة والشقاء بفعل الشيء وتركه لوصفه بكونه واجبا معنى) يعقل (وقول القائل صار) الأنس (واجبا بالإيجاب حديث محض) مجرد عن الفائدة; (فإن ما لا غرض لنا عاجلا ولا آجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه، فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد، علم أنه لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى، و) علم (أن كل محجوب عنه) بحجاب ظلمة محض، أو ظلمة ممزوجة بنور (يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي) قيل: هو التوبة، وقيل: الزيادة في العمل، وقيل: حسن الخاتمة، وبكل فسر قوله تعالى: وحيل بينهم وبين ما يشتهون (محترق بنور القرآن ونار جهنم) ، وفي نسخة: نار الجحيم، (وعلم) أيضا (أنه لا مبعد من لقاء الله تعالى إلا اتباع الشهوات) والعمل بمقتضاها، (والأنس بهذا العالم الفاني، وإلا كباب على حب من لا بد) ، وفي نسخة: ما لا بد (من فراقه قطعا، وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله تعالى إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم) أي: زينته، (والإقبال على الله تعالى طلبا للأنس به) ، وذلك يكون (بدوام ذكره) بأي نوع كان فلا يرى إلا مشتغلا إما مصليا وإما صائما وإما تاليا وإما طالبا للعلم، وغير ذلك، وكل ما يعين على الذكر فهو ذكر، ودوام العمل من جملة مقامات التوبة كما سبقت الإشارة إليه في المقدمة .

(و) يكون الإقبال على الله طلبا (للمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته) ، وهو أيضا من أحوال التوبة، (وعلم) أيضا (أن الذنوب التي هي إعراض عن الله عز وجل، واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته) ، وفي بعض النسخ: لمحاب الشيطان عدو الله المبعد عن حضرته (سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله) تعالى، (فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب، وإنما يتم الانصراف) بثلاثة أمور مرتبة (بالعلم [ ص: 505 ] والندم والعزم; فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد من المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد، وما لم يتوجع بقلبه فلا يرجع) عما هو ملابس له، (ومعنى الرجوع الترك والعزم، فلا يشك أن المعاني الثلاثة) بترتيبها (ضرورية في الوصول إلى المحبوب، وكذا يكون الإيمان الحاصل من نور البصيرة، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام) المحمود (المرتفع ذروته) أي: أعلاه (عن) درك (حدود أكثر الخلق) من المترسمين، (ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك) الأبدي، (فيلاحظ فيه قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى) في كتابه العزيز في البيان الأول من خطاب العموم: ( وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ، وهذا أمر على العموم) ، ومعناه: ارجعوا إليه من هوى أنفسكم، ومن وقوفكم مع شهواتكم، عسى أن تظفروا ببغيتكم في المعاد، وكي تبقوا ببقاء الله في نعيم لا زوال له ولا نفاد، ولكي تفوزوا وتسعدوا بدخول الجنة، وتنجوا من النار، وهذا هو الفلاح ففرض في هذه الآية التوبة، وعد عليها عظيم المثوبة كذا في القوت، وفي البصائر لصاحب القاموس: هذه الآية في سورة مدنية خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعلق المسبب بسببه، وأتى بأداة لعل المشعرة بالترجي إيذانا بأنكم إذا تبتم كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون، (وقال تعالى) في البيان الثاني من مخاطبة الخصوص: ( يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا الآية) ، وتمامها عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار أي: بالغة في النصح، وهي صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة، أو من النصاحة بالكسر وهي الخياطة; لأنها تنصح ما خرق الذنب، وقرئ نصوحا بالضم، وهو مصدر تقديره ذات نصوح، أو تنصح نصوحا أو توبوا نصوحا لأنفسكم .

قال صاحب البصائر: يقال: إن التوبة من طريق المعنى على ثلاثة أنواع، ومن طريق اللفظ وسبيل اللطف على ثلاث وثلاثين درجة، ثم قال: وأما درجات اللطف في الأولى: إن الله أمر الخلق بالتوبة، وأشار بـ أيها التي تليق بحال المؤمن، وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون .

الثانية: لا تكون التوبة ثمرة حتى يتم أمرها توبوا إلى الله توبة نصوحا .

(ومعنى النصوح الخالص لله خاليا عن الشوائب مأخوذ من النصح) بضم فسكون فعول للمبالغة في النصح، وهو الخلوص، ومنه قولهم: نصح العسل إذا صفاه كما تقدم، وفي القوت: وقيل: اشتقاقه من النصح بالكسر، وهو الخيط، والمعنى حينئذ أي: مجردة لا تتعلق بشيء، ولا يتعلق بها شيء، وهو الاستقامة على الطاعة من غير روغان إلى معصية كما تروغ الثعالب، وأن لا يحدث نفسه بعود إلى الذنب متى قدر عليه، وأن يترك الدنيا لأجل الله خالصة لوجهه، كما ارتكبه لأجل هواه مجمعا عليه بقلبه، فمتى لقي الله تعالى بقلب سليم من الهوى وعمل مستقيم على السنة، فقد ختم الله له بحسن الخاتمة، فحينئذ أدركته الحسنى السابقة، وهذا هو التوبة النصوح، وهذا العبد التواب المتطهر الحبيب .

وسئل الحسن عن التوبة النصوح فقال: هي ندم بالقلب، واستغفار باللسان، وتزكية الجوارح، وإضمار أن لا يعود.

وروى ابن أبي حاتم، وابن مردويه من حديث أبي بن كعب: التوبة النصوح الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله، ثم لا تعود إليه أبدا.

قال القرطبي: في تفسير التوبة النصوح ثلاثة وعشرون قولا، (ويدل على فضل التوبة قوله تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ، وهو إخبار بمن سبقت له من الله الحسنى، ووصف لمن قصده بخطابه العام والخاص، وهذه إحدى درجات اللطف; كأنه يقول: إذ تبت بتوبتي عليك، وتوفيقي لك جازيتك بالمحبة. وفي عطف الجملة الثانية على الأولى إشارة إلى أن التوبة مطهرة عن الذنوب، ولذا قرنهما في سياق; ولهذا قيل: التوبة قصار المذنبين، وغسال المجرمين، وقائد المحسنين، وعطاء المريدين، وأنيس المشتاقين، وسابق إلى رب العالمين، (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة") قال العراقي: رواه مسلم من حديث الأغر المزني، ولابن ماجه من حديث جابر: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا" الحديث. وسنده ضعيف [ ص: 506 ] اهـ. قلت: حديث الأغر لفظه عند مسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فوالله إني لأتوب إلى الله في اليوم مائة مرة"، وهكذا رواه الطيالسي، وأحمد، وعبد بن حميد، وأبو عوانة، والطحاوي، وابن حبان، وابن قانع، والباوردي، والبغوي، كلهم عن الأغر، وهو ابن يسار المزني، ويقال: الجهني، له صحبة. ورواه ابن مردويه من حديث أبي هريرة، ويروى: "يا أيها الناس استغفروا الله، وتوبوا إليه فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أو في كل يوم مائة مرة، أو أكثر من مائة مرة" هكذا رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، والطبراني، وابن مردويه عن أبي بردة عن رجل من المهاجرين.

وروراه الحكيم عن أبي بردة عن الأغر.

وأما حديث جابر فطويل رواه أيضا البيهقي وضعفه، وفيه بعد قوله: "توبوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا" إلخ بطوله. وعند الطبراني من حديث أبي أمامة: "يا أيها الناس، أنيبوا إلى ربكم، إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى" الحديث، وفي القوت: "ولا يكون العبد تائبا حتى يكون مصلحا، ولا يكون مصلحا حتى يعمل الصالحات، ثم يدخل في الصالحين"، وقد قال تعالى: وهو يتولى الصالحين ، وهذا وصف التواب، وهو المتحقق بالتوبة الحبيب لله تعالى كما قال سبحانه: يحب التوابين أي: يتولى قبول الراجعين إليه من هوائهم المتطهرين من المكاره، وكما (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التائب حبيب الله") ، وسئل سهل التستري رحمه الله: متى يكون التائب حبيب الله؟ فقال: إذا كان كما قال سبحانه: التائبون العابدون الآية كلها، ثم قال: الحبيب لا يدخل إلا في شيء يحب الحبيب.

والحديث قال العراقي: لم أجده بهذا اللفظ، وروى ابن أبي الدنيا في التوبة، وأبو الشيخ في كتاب الثواب من حديث أنس بسند ضعيف: "إن الله يحب الشاب التائب"، ولعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وأبي يعلى بسند ضعيف من حديث علي: "إن الله يحب العبد المؤمن المغفل التواب" اهـ .

قلت: وروى القشيري من طريق ابن عاتكة طريف بن سليمان عن أنس رفعه: ما أي شيء أحب إلى الله من شاب تائب " وعاتكة ضعيف، (و) قال صلى الله عليه وسلم: (التائب من الذنب) توبة مخلصة صحيحة (كمن لا ذنب له) ; فإن العبد إذا استقام ضعفت نفسه، وانكسر هواه، وساوى الذي قبله من لا صبوة له. قال الطيبي: هذا من إلحاق الناقص بالكامل مبالغة، كما تقول: زيد كالأسد، ولا يكون المشرك التائب معادلا بالنبي المعصوم، والحديث قال العراقي: رواه ابن ماجه من حديث ابن مسعود اهـ .

قلت: وكذا الطبراني في الكبير، والبيهقي في الشعب كلهم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه مرفوعا به، قال المنذري: رواة الطبراني رواة الصحيح، لكن أبو عبيدة لم يسمع عن أبيه، وقال السخاوي: رجاله ثقات، بل حسنه شيخنا يعني لشواهده، وإلا فأبو عبيدة جزم غير واحد بأنه لم يسمع عن أبيه اهـ .

ورواه الحكيم في النوادر، والطبراني، وأبو نعيم من حديث ابن أبي سعيد عن أبيه مرفوعا بهذا بزيادة في أوله: "الندم والتائب من الذنب" إلخ، وقد تقدم. قال في الميزان: قال أبو حاتم: حديث ضعيف، وابن أبي سعيد مجهول، رواه عنه يحيى بن أبي خالد، وهو مجهول أيضا، ومن شواهد هذا الحديث ما رواه ابن أبي الدنيا، والطبراني، والبيهقي، والديلمي من حديث ابن عباس: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه، ومن آذى مسلما كان عليه من الذنوب مثل منابت النخل. قال الذهبي: إسناده مظلم. وقال الحافظ في الفتح: الراجح أن قوله: والمستغفر.. إلخ موقوف، وأخرجه البيهقي كذلك من حديث أبي عنبسة الخولاني، وإلا فسنده أيضا ضعيف .

ومنها ما قال القشيري في الرسالة: حدثنا أبو فورك، أخبرنا أحمد بن محمود بن خرزاد، حدثنا محمد بن الفضل بن جابر، حدثنا سعيد بن عبد الله، حدثنا أحمد بن زكريا، حدثنا أبي قال: سمعت ابن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أحب الله عبدا لم يضره ذنب"، ثم تلا إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، قيل: يا رسول الله، ما علامات التوبة؟ قال: "الندامة"، وقد رواه الديلمي، وابن النجار إلى قوله: "لم يضره ذنب"، ورواه ابن أبي الدنيا من قول الشعبي جملة الترجمة، ثم تلا: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، (وقال صلى الله عليه وسلم) اللام لام الابتداء، واسم الجلالة مبتدأ وخبره (أشد) ، أي: أكثر (فرحا) تمييز أي: رضا ومنه [ ص: 507 ] قوله تعالى: بما لديهم فرحون أي: راضون (بتوبة عبده المؤمن) فإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه، وبسط رحمته، ومزيد إقباله على عبده والكرامة له، (من رجل نزل في أرض دوية) أي: مفازة (مهلكة) ، وهو مفعلة من الهلاك (معه راحلته) أي: ناقته التي يرتحلها (عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه) على الأرض (فنام نومة فاستيقظ) من نومه، (وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى) طلع عليه النهار، و (اشتد عليه الحر، والعطش، أو ما شاء الله تعالى، قال) في نفسه (أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ، فإذا راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته) ، فالمراد أن التوبة تقع من الله في القبول والرضا موقعا يقع في مثله ما يوجب فرط الفرح ممن يتصور في حقه ذلك، فعبر بالرضا عن الفرح تأكيدا للمعنى في ذهن السامع ومبالغة في تقريره، وحقيقة الفرح لغة انشراح الصدر بلذة عاجلة، وهو محال في حقه تعالى .

والحديث قال العراقي: متفق عليه من حديث ابن مسعود، وأنس، ورواه مسلم من حديث نعمان بن بشير، ومن حديث أبي هريرة مختصرا اهـ .

قلت: بلفظ حديث ابن مسعود عن الشيخين: "لله أفرح بتوبة العبد من رجل نزل منزلا، وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ، وقد ذهبت راحلته، فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فرجع فنام نومة، ثم رفع رأسه، فإذا راحلته عنده عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته"، ورواه أيضا هكذا أحمد، والترمذي، وأما لفظ حديث أنس عندهما: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة" هكذا روياه في التوبة وغيرها مختصرا، ورواه مسلم، والترمذي من حديث أبي هريرة هكذا، ورواه الترمذي وابن ماجه بلفظ: "لله أفرح بتوبة أحدكم بضالته إذا وجدها" قال الترمذي: حسن صحيح غريب، ولفظ حديث النعمان بن بشير: "للرب أفرح بتوبة أحدكم من رجل كان في فلاة من الأرض معه راحلته عليها زاده، وماؤه فتوسد راحلته، فنام فغلبته عيناه، ثم قام، وقد ذهبت الراحلة، فصعد شرفا فنظر فلم ير شيئا، ثم هبط فلم ير شيئا" فقال: لأعودن إلى المكان الذي كنت فيه حتى أموت فيه، فعاد فنام، فغلبته عينه، ثم انتبه، فإذا الراحلة قائمة على رأسه، فالرب بتوبة أحدكم أشد فرحا من صاحب الراحلة بها حين وجدها"، وهذا رواه ابن زنجويه.

(وفي بعض الألفاظ) لهذا الحديث (قال من شدة فرحه إذا أراد شكر الله تعالى: اللهم أنا ربك، وأنت عبدي) . قال العراقي: رواه مسلم من حديث أنس بلفظ: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح"، وفي الباب أبو سعيد الخدري، ولفظه: "لله أفرح بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بفلاة من الأرض فطلبها، فلم يقدر عليها فتنحى للموت، فبينما هو كذلك إذ سمع وحية الراحلة حين بركت فكشف عن وجهه، فإذا هو براحلته" رواه أحمد، وابن ماجه، وأبو يعلى، ومن شواهده حديث أبي هريرة: "لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد، ومن الضال الواجد، ومن الظمآن الوارد" رواه ابن عساكر في أماليه، ورواه ابن تركان الهمداني في كتاب التائبين من طريق بقية بن عبد العزيز الوصابي عن أبي الجون مرسلا بزيادة: "فمن تاب إلى الله توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه".

(وروي عن الحسن) البصري رحمه الله تعالى (أنه قال: لما تاب الله على آدم عليه السلام هنأته الملائكة) بقبول توبته (فهبط جبرائيل وميكائيل) عليهما السلام (فقالا له: يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك) أي: بقبولها منك (فقال آدم عليه السلام: يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي، فأوحى الله تعالى إليه يا آدم، ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك) أي: أجبته كما أجبتك، (ومن سألني المغفرة) من ذنوبه (لم أبخل عليه) بها (لأني [ ص: 508 ] قريب) للسائلين، (مجيب) للداعين، (يا آدم، وأحشر التائبين من القبور مستبشرين) فرحين (ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة، وأورده القشيري في الرسالة مقتصرا على قوله: وقيل: أوحى الله إلى آدم عليه السلام: "يا آدم، ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، من دعاني منهم بدعوتك لبيته، كتلبيتك يا آدم، أحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين، ودعواهم مستجاب .




الخدمات العلمية