الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن أنها خالصة لوجه الله ، ويكون فيها مغرورا ؛ لأنه لا يرى وجه الآفة فيها كما حكي عن بعضهم أنه قال : قضيت صلاة ثلاثين سنة ، كنت صليتها في المسجد في الصف الأول ؛ لأني تأخرت يوما لعذر ، فصليت في الصف الثاني ، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني ، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي ، وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر .

وهذا دقيق غامض ، قلما تسلم الأعمال من أمثاله وقل من ، يتنبه له إلا من وفقه الله تعالى والغافلون يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات وهم المرادون بقوله تعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وبقوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء والفرح بالاستتباع ، والاستبشار بالحمد والثناء ، والشيطان يلبس عليهم ذلك ، ويقول : غرضكم نشر دين الله والنضال عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحة الخلق ، ووعظه للسلاطين ، ويفرح بقبول الناس قوله ، وإقبالهم عليه .

وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ولو ظهر من أقرانه من هو أحسن منه وعظا ، وانصرف الناس عنه وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه ولو كان باعثه الدين لشكر الله تعالى إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره .

ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه ، ويقول إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك ؛ إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب ، واغتمامك لفوات الثواب محمود ، ولا يدري المسكين أن انقياده للحق وتسليمه الأمر أفضل وأجزل ثوابا وأعوذ ، عليه في الآخرة من انفراده .

وليت شعري لو اغتم عمر رضي الله عنه بتصدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه للإمامة أكان غمه محمودا أو مذموما ، ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك لكان مذموما لأن ؛ انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكفله بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل ، بل فرح عمر رضي الله تعالى عنه باستقلال من هو أولى منه بالأمر .

فما بال العلماء لا يفرحون بمثل ذلك وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به ، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور ؛ فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر ، ثم إذا دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد .

وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس ، وطال اشتغاله بامتحانها ، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع إلا الشاذ النادر والفرد الفذ وهو ، المستثنى في قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق ، وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر .

التالي السابق


(وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ) طول عمره (ويظن ) في نفسه (أنها خالصة لوجه الله تعالى، ويكون فيها مغرورا؛ لأنه لا يرى وجه الآفة فيها ) فعليه أن يمتحن نفسه بالامتحانات!

(كما حكي عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة، كنت صليتها في المسجد في الصف الأول؛ لأني تأخرت يوما لعذر، فصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس ) إذ (رأوني في الصف الثاني، فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان مسرتي، وسبب استراحة قلبي من حيث لا أشعر ) وهذا لا يحبط ثواب نفس الصلاة، وإنما ينقص ثواب المسارعة إلى الصف الأول، فعمل على خلاف ما تتقاضاه النفس؛ لئلا يرجع ذلك له قويا .

فيستحب للمخلص أن يتفقد أحواله ليقف بذلك على أغوار مكايد النفس والشيطان (وهذا دقيق غامض، قلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقلما يتنبه له إلا من وفقه الله تعالى ) وهم قليلون (والغافلون عنه يرون حسناتهم كلها في الآخرة سيئات ) ويندمون حيث لا ينفعهم الندم (وهم المرادون بقوله تعالى: وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) قيل: عملوا أعمالا لجهلهم ظنوا أنها حسنات فوجدوها سيئات وبقوله تعالى: ( وبدا لهم سيئات ما كسبوا ) وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (وبقوله تعالى: [ ص: 53 ] قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

وأشد الخلق تعرضا لهذه الفتنة العلماء ) والوعاظ (فإن الباعث للأكثرين على نشر العلم لذة الاستيلاء ) أي: الغلبة (والفرح بالاستتباع، والاستبشار بالحمد والثناء، والشيطان يلبس عليهم ذلك، ويقول: غرضكم ) أيها العلماء (نشر دين الله ) تعالى (والنضال ) أي: المدافعة (عن الشرع الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) فإنما يتصورون ذلك من نفوسهم، هذا الذي أملى عليهم، تتقوى صفات أفعالهم، ويظنون أنهم على غاية الكمال (وترى الواعظ يمن على الله تعالى بنصيحته الخلق، ووعظه للسلاطين، ويفرح بقبول الناس قوله، وإقبالهم عليه، وهو يدعي أنه يفرح بما يسر له من نصرة الدين ) وهذا أيضا مغرور، قد لبس عليه الشيطان، وبمعزل عن الإخلاص .

(و ) امتحان ذلك أنه (لو ظهر من أقرانه من هو ) أكثر منه علما، وأذلق منه لسانا، وأفصح منه بيانا (وأحسن منه وعظا، وانصرف الناس عنه ) أي: عن مجلس علمه أو وعظه (وأقبلوا عليه ساءه ذلك وغمه ) فبهذا يظهر الغرور والتلبيس في علمهما .

(ولو كان باعثه الدين ) وفرح بذلك لمساعدته له على إنقاذ عباد الله من أيدي الشياطين (لشكر الله تعالى ) على النعمة التي أداها، وهي رتبة الصديقين؛ فإن العلم بالتعلم كمال في العلم (إذ كفاه الله تعالى هذا المهم بغيره ) ووجد مساعدا له على مهمه .

وإن ضربته عقرب الحسد حتى اشتهى بذلك زوال النعمة عنه، وظهور عثرات؛ ليسقط بذلك وقع كلامه في قلوب الناس، فلا يشك أنه راكع ساجد للناس، وعيشه وحياته بهم لا بالله تعالى .

(ثم الشيطان مع ذلك لا يخليه، ويقول ) له: (إنما غمك لانقطاع الثواب عنك لا لانصراف وجوه الناس عنك إلى غيرك؛ إذ لو اتعظوا بقولك لكنت أنت المثاب، واغتمامك لفوات الثواب محمود، ولا يدري المسكين أن القيادة للحق وتسليمه الأمر للأفضل ) والأعلم والأفصح (أجزل ثوابا، وأعود عليه في الآخرة من انفراده ) في الأمر الذي فيه .

(وليت شعري لو اغتم عمر -رضي الله عنه- لتصدي أبي بكر -رضي الله عنه- للإمامة ) والخلافة دون الناس (أكان غمه محمودا أو مذموما، ولا يستريب ذو دين أن لو كان ذلك ) وفرض (لكان مذموما؛ إذ انقياده للحق وتسليمه الأمر إلى من هو أصلح منه أعود عليه في الدين من تكلفه بمصالح الخلق مع ما فيه من الثواب الجزيل، بل فرح عمر -رضي الله عنه- باستقلال من هو أولى منه بالأمر ) كما دل على ذلك الآثار الواردة في قصة البيعة .

(فما بال العلماء ) وهم في منصب الإمامة (لا يفرحون بمثل ذلك ) وهم أحق بهذا الفرح من غيرهم؛ إذ كان سببا لمعرفتهم بغرور نفوسهم حتى يرجعوا إلى الله تعالى، ويجتهدوا في الإخلاص له؛ إذ معرفة الإنسان بعيوب نفسه من جملة السعادات .

(وقد ينخدع بعض أهل العلم بغرور الشيطان فيحدث نفسه بأنه لو ظهر من هو أولى منه بالأمر لفرح به، وإخباره بذلك عن نفسه قبل التجربة والامتحان محض الجهل والغرور؛ فإن النفس سهلة القياد في الوعد بأمثال ذلك قبل نزول الأمر، ثم إذ دهاه الأمر تغير ورجع ولم يف بالوعد، وذلك لا يعرفه إلا من عرف مكايد الشيطان والنفس، وطال اشتغاله بامتحانها، فمعرفة حقيقة الإخلاص والعمل به بحر عميق يغرق فيه الجميع ) ولذا كانوا على خطر عظيم .

(إلا الشاذ النادر الفرد الفذ، وهو المستثنى في قوله تعالى: إلا عبادك منهم المخلصين فليكن العبد شديد التفقد والمراقبة لهذه الدقائق، وإلا التحق بأتباع الشياطين وهو لا يشعر ) .

ولما كان الإخلاص نعمة من النعم، وفعلا من أفعاله، والعبد آلة ومحل لما يرد عليه من مولاه لا من نفسه، كثرت أقاويلهم في حده وحقيقته [ ص: 54 ] فوجب بيان ذلك .




الخدمات العلمية