الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مرابطة النفس ومراقبتها .

فمهما تمردت نفسك عليك وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء فإنه قد عز الآن وجود مثلهم ولو قدرت على مشاهدة من اقتدى بهم فهو أنجع في القلب وأبعث على الاقتداء فليس الخبر كالمعاينة وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء فإن لم تكن إبل فمعزى وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في الدين وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء وتؤثر مخالفة العقلاء .

فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات وقل لها يا نفس لا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها ولنذكر الآن نبذة من أحوال المجتهدات فقد روي عن حبيبة العدوية أنها كانت إذا صلت العتمة قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت إلهي قد غارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامي بين يديك ثم تقبل على صلاتها فإذا طلع الفجر قالت إلهي هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى وعزتك لهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني وعزتك لو انتهرتني عن بابك ما برحت لما وقع في نفسي من جودك وكرمك .

ويروى عن عجرة أنها كانت تحيي الليل وكانت مكفوفة البصر فإذا كان في السحر نادت بصوت لها محزون إليك قطع العابدون دجى الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين وأن تلحقني بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر .

وقال يحيى بن بسطام كنت أشهد مجلس شعوانة فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء فقلت لصاحب لي لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها فقال أنت وذاك قال فأتينا فقلت لها لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئا فكان لك أقوى على ما تريدين قال فبكت ثم قالت والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي ثم أبكي دما حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي وأنى لي بالبكاء وأنى لي بالبكاء .

فلم تزل تردد وأنى لي بالبكاء حتى غشي عليها .

وقال محمد بن معاذ حدثتني امرأة من المتعبدات قالت رأيت في منامي كأني أدخلت الجنة فإذا أهل الجنة قيام على أبوابهم فقلت ما شأن أهل الجنة قيام فقال لي قائل خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التي زخرفت الجنان لقدومها فقلت ومن هذه المرأة فقيل أمة سوداء من أهل الأيكة يقال لها شعوانة .

قالت فقلت أختي والله قالت فبينما أنا كذلك إذ أقبل بها على نجيبة تطير بها في الهواء فلما رأيتها ناديت يا أختي أما ترين مكاني من مكانك فلو دعوت لي مولاك فألحقني بك قالت فتبسمت إلي وقالت لم يأن لقدومك ولكن احفظي عني اثنتين ألزمي الحزن قلبك وقدمي محبة الله على هواك ولا يضرك متى مت وقال عبد الله بن الحسن كانت لي جارية رومية وكنت بها معجبا فكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي فانتبهت فالتمستها فلم أجدها فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة وهي تقول بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي فقلت لها لا تقولي بحبك لي ولكن قولي بحبي لك فقالت يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام وقال أبو هاشم القرشي قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض ديارنا قال فكنت أسمع لها من الليل أنينا وشهيقا فقلت يوما لخادم لي أشرف على هذه المرأة ماذا تصنع قال فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئيا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهي مستقبلة القبلة تقول خلقت سرية ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة أتراها تظن أنك لا ترى فعالها وأنت عليم خبير ، وأنت على كل شيء قدير ، وقال ذو النون المصري خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ويبكي فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة صوف وبيدها ركوة فقالت لي من أنت غير فزعة مني فقلت رجل غريب فقالت يا هذا وهل يوجد مع الله غربة قال فبكيت لقولها فقالت ما الذي أبكاك فقلت قد وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه قالت فإن كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك الله والصادق لا يبكي قالت لا قلت ولم ذاك قالت لأن البكاء راحة القلب فسكت متعجبا من قولها .

وقال أحمد بن علي استأذنا على عفيرة فحجبتنا فلازمنا الباب فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا فسمعتها وهي تقول اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك ثم فتحت الباب ودخلنا عليها فقلنا لها يا أمة الله ادعي لنا فقالت جعل الله قراءكم في بيتي المغفرة ثم قالت لنا مكث عطاء السلمي أربعين سنة فكان لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيا عليه فأصابه فتق في بطنه فيا ليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص ويا ليتها إذا عصت لم تعد وقال بعض الصالحين خرجت يوما إلى السوق ومعي جارية حبشية فاحتبستها في موضع بناحية السوق وذهبت في بعض حوائجي وقلت لا تبرحي حتى أنصرف إليك قال فانصرفت فلم أجدها في الموضع فانصرفت إلى منزلى وأنا شديد الغضب عليها فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي فقالت يا مولاي لا تعجل علي إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرا لله تعالى فخفت أن يخسف بذلك الموضع فعجبت لقولها وقلت: لها أنت حرة .

فقالت ساء ما صنعت كنت أخدمك فيكون لي أجران وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما .

وقال ابن العلاء السعدي كانت لي ابنة عم يقال لها بريرة تعبدت وكانت كثيرة القراءة في المصحف فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء فقال بنو عمها انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعدلها في كثرة البكاء قال فدخلنا عليها فقلنا يا بريرة كيف أصبحت قالت أصبحنا أضيافا منيخين بأرض غربة ننتظر متى ندعى فنجيب فقلنا لها ما هذا البكاء قد ذهبت عيناك منه فقالت إن يكن لعيني عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا ثم أعرضت .

قال فقال القوم قوموا بنا فهي والله في شيء غير ما نحن فيه وكانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول هذا يومي الذي أموت فيه فما تطعم حتى تمسي فإذا جاء الليل تقول هذه الليلة التي أموت فيها فتصلي حتى تصبح وقال أبو سليمان الداراني بت ليلة عند رابعة فقامت إلى محراب لها وقمت أنا إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة إلى السحر فلما كان السحر قلت ما جزاء من قوانا على قيام هذه الليلة قالت جزاؤه أن تصوم له غدا وكانت شعوانة تقول في دعائها إلهي ما أشوقني إلى لقائك وأعظم رجائي لجزائك وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين ولا يبطل عندك شوق المشتاقين إلهي إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عمل فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي فإن عفوت فمن أولى منك بذلك وإن عذبت فمن أعدل منك هنالك إلهي قد جرت على نفسي في النظر لها وبقي لها حسن نظرك فالويل لها إن لم تسعدها إلهي إنك لم تزل بي برا أيام حياتي فلا تقطع عني برك بعد مماتي .

ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يسعفني عند مماتي بغفرانه إلهي كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتي ولم تولني إلا الجميل في حياتي إلهي إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني فتول من أمري ما أنت أهله وعد بفضلك على من غره جهله إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني ولو أردت فضيحتي لم تسترني فمتعني بما له هديتني وأدم لي ما به سترتني إلهي ما أظنك تردني في حاجة أفنيت فيها عمري إلهي لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك .

التالي السابق


(فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مرابطة النفس ومراقبتها فمهما تمردت نفسك عليك وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء فإنه قد عز الآن وجود مثلهم ) بل ومن يداني من يشابههم (ولو قدرت على مشاهدة من اقتدى بهم ) في أحوالهم (فهو أنجع في القلب وأبعث على الاقتداء فليس الخبر كالمعاينة ) كما ورد في الخبر وتقدم (وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء فإن لم تكن إبل فمعزى ) وهو مثل مشهور (وخير نفسك بين الاقتداء بهم والسكون في زمرتهم وغمارهم ) أي : جماعتهم وكثرتهم (وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في الدين وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك ولا ترض لها أن تنخرط في [ ص: 138 ] سلك الحمقى ) وزمرة الأغبياء (وتقنع بالتشبه بالأغبياء وتؤثر مخالفة العقلاء فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات وقل لها يا نفس ألا تستنكفين أن تكوني أقل من امرأة فأخسس برجل يقصر عن ) درجة (امرأة في أمر دينها ودنياها ولنذكر الآن نبذة من أحوال المجتهدات فقد روي عن حبيبة العدوية ) وكانت امرأة عابدة من البصرة (أنها كانت إذا صلت قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت إلهي قد غارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامي بين يديك ثم تقبل على صلاتها ) فتصلي ما شاء الله أن تصلي (فإذا طلع الفجر قالت إلهي هذا الليل قد أدبر ) أي : ولى منصرفا (وهذا النهار قد أسفر ) أي : ظهر نوره (فليت شعري أقبلت مني ليلتي فأهنأ أم رددتها علي فأعزى وعزتك لو انتهرتني من بابك ما برحته لما وقع في نفسي من جودك وكرمك ) ، رواه أبو نعيم في الحلية (ويروى عن عجرة ) بضم العين وكانت من متعبدات البصرة (أنها كانت تحيي الليل ) بالصلاة والتسبيح (وكانت مكفوفة البصر فإذا كان السحر نادت بصوت لها محزون إليك قطع العابدون دجا الليالي يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهي أسألك لا بغيرك أن تجعلني في أول زمرة السابقين وأن ترفعني لديك في عليين في درجة المقربين وأن تلحقني بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكي إلى الفجر ) ، رواه أبو نعيم في الحلية .

(وقال يحيى بن بسطام كنت أشهد مجلس شعوانة ) وكانت من العارفات المتعبدات المعاصرات للفضيل بن عياض (فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء فقلت لصاحب لي لو أتيناها إذا خلت ) بنفسها (فأمرناها بالرفق بنفسها فقال أنت وذاك قال فأتيناها فقلت لها لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئا فكان لك أقوى على ما تريدين قال فبكت ثم قالت والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي ثم أبكي دما حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحي وأنى لي بالبكاء فلم تزل تردد وأنى لي بالبكاء حتى غشي عليها ) ، رواه ابن أبي الدنيا عن محمد بن الحسين عن يحيى بن بسطام فذكره وقال أبو نعيم في الحلية حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا إبراهيم بن علي الرازي حدثنا النضر بن سلمة حدثنا زهدم بن الحارث عن فضيل بن عياض قال قدمت شعوانة فأتيتها فشكوت إليها وسألتها أن تدعو الله بدعاء فقالت شعوانة يا فضيل أما بينك وبين الله ما إن دعوته استجاب قال فشهق الفضيل شهقة فخر مغشيا عليه .

(وقال محمد بن معاذ ) بن عباد بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري البصري صدوق عارف مات سنة 223 روى عنه مسلم وأبو داود (حدثتني امرأة من المتعبدات قالت رأيت في منامي كأني أدخلت الجنة فإذا أهل الجنة قيام على أبوابهم فقلت ما شأن أهل الجنة قيام فقال لي قائل خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التي زخرفت الجنان لقدومها فقلت ومن هذه المرأة فقيل أمة سوداء من أهل الأبلة ) بضم الهمزة والموحدة وتشديد اللام موضع على أربع فراسخ من البصرة (يقال لها شعوانة قال فقلت أختي والله ) تعني الأخوة في الله (قالت فبينما أنا كذلك إذ أقبل بها على نجيبة تطير بها في الهواء [ ص: 139 ] فلما رأيتها ناديت يا أختي أما ترين مكاني من مكانك فلو دعوت لي مولاك فألحقني بك قالت فتبسمت إلي وقالت لم يأت لقدومك ولكن احفظي عني ) خصلتين (اثنتين ) إحداهما (ألزمي الحزن قلبك ) أي : لا يفارقك الحزن أبدا (و ) الثانية (قدمي محبة الله على هواك ولا يضرك متى مت ) ، رواه ابن أبي الدنيا .

(وقال عبد الله بن الحسن ) بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني أبو محمد ثقة جليل القدر روى له أصحاب السنن مات سنة خمس وأربعين ومائة عن خمس وسبعين سنة (كانت لي جارية رومية ) أي : من سبي الروم (وكنت بها معجبا وكانت في بعض الليالي نائمة إلى جنبي فانتبهت فلمستها فلم أجدها فقمت أطلبها فإذا هي ساجدة وهي تقول بحبك لي إلا ما غفرت لي ذنوبي فقلت لها لا تقولي بحبك لي ولكن قولي بحبي لك فقالت يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الإسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام ) ، رواه ابن أبي الدنيا .

(وقال أبو هاشم القرشي ) كذا في النسخ والصواب أبو هشام (قدمت علينا ) مكة (امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض ديارنا قال فكنت أسمع لها من الليل أنينا وشهيقا فقلت يوما لخادم لي أشرف على هذه المرأة ماذا تصنع قال فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهي مستقبلة القبلة وتقول خلقت سرية ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة تراها تظن أنك لا ترى من فعالها وأنت عليم خبير ، وأنت على كل شيء قدير ) ، رواه أبو بكر بن أبي الدنيا مع بعض مخالفة وزيادة في الآخر فقال حدثنا محمد بن الحسين حدثني عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا أبو هشام رجل من قريش من بني عامر قال قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض رباعنا فكنت أسمع لها من الليل نحيبا وشهيقا فقلت للخادم أشرفي على هذه المرأة فانظري ما تصنع فأشرفت فإذا هي قائمة مستقبلة القبلة رافعة رأسها إلى السماء فقلت ما تصنع قالت ما أراها تصنع شيئا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء فقلت اسمعي ما تقول قالت ما أفهم كثيرا من قولها غير أني أسمعها تقول أراك خلقت سرية من طينة لازبة غمرتها بنعمتك تعدوها من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة في إثر فلتة أترى أنها تظن أنك لا ترى سوء فعالها بلى وهو على كل شيء قدير قال فصرخت وسقطت ونزلت الجارية فأخبرتني بسقطتها فلما أصبحنا نظرنا فإذا هي قد ماتت .

(وقال ذو النون المصري ) رحمه الله تعالى (خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل علي وهو يقول وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ويبكي فلما قرب مني السواد إذا هي امرأة عليها جبة صوف وبيدها ركوة فقالت لي من أنت غير فزعة مني قلت رجل غريب فقالت يا هذا وهل يوجد مع الله غربة قال فبكيت لقولها فقالت لي ما الذي أبكاك فقلت وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه قالت فإن كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك الله والصادق لا يبكي قالت لا قلت ولم ذلك قالت لأن البكاء راحة القلب فسكت متعجبا من قولها ) أي : والصادق في المحبة لا يرتاح إلا بمولاه والبكاء إنما يعتري في مبادئ الحب قبل تمامه بالصدق ويشبه هذه القصة ما ذكره ابن السراج في مصارع العشاق أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي حدثنا علي بن عبد الله بن الحسن الهمداني بمكة حدثنا محمد بن عبد الله بن الشكلي حدثني محمد بن جعفر القنطري قال قال ذو النون : بينما أنا أسير على ساحل البحر إذ بصرت بجارية [ ص: 140 ] عليها أطمار شعر وإذا هي ناحلة ذابلة فدنوت منها لأسمع ما تقول فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان وعصفت الرياح واضطربت الأمواج وظهرت الحيتان فصرخت ثم سقطت إلى الأرض فلما أفاقت نحبت ثم قالت سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات ولعظمتك سبحت النينان في البحار الزاخرات ولجلال قدسك تصافقت الأمواج المتلاطمات أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار والفلك الدوار والبحر الزخار والقمر النوار والنجم الزهار وكل شيء عندك بمقدار لأنك الله العلي القهار .


يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال من ذاق حبك لا يزال متيما
فرح الفؤاد متيما بلبال من ذاق حبك لا يرى متبسما
في طول حزن في الحشاشة عالي

فقلت لها زيدينا من هذا فقالت إليك عني ثم رفعت طرفها إلى السماء وقالت :


أحبك حبين حب الوداد وحبا لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الوداد فحب شغلت به عن سواك
وأما الذي أنت أهل له فكشفك للحجب حتى أراك
فما الحمد في ذا ولا ذاك لي ولكن لك الحمد في ذا وذاك

ثم شهقت شهقة فإذا هي قد فارقت الدنيا فبقيت أتعجب مما رأيت منها فإذا بنسوة قد أقبلن عليهن مدارع الشعر فأحتملنها فغيبنها عن عيني فغسلنها ثم أقبلن بها في أكفانها فقلن لي تقدم فصل عليها فتقدمت فصليت عليها وهن خلفي ثم احتملنها ومضين وقد تقدم ذكر هذه القصة مع الأبيات في كتاب المحبة وهذه الأبيات الأربعة نسبت إلى رابعة العدوية وتقدم الكلام عليها .

(وقال أحمد بن علي استأذنا على غفيرة ) بضم الغين المعجمة وفي بعض النسخ بالعين المهملة وكانت من المتعبدات من أهل البصرة (فحجبتنا ) أي : منعتنا من الدخول عليها (فلازمنا الباب فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا فسمعتها وهي تقول اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك ثم فتحت الباب ودخلنا عليها فقلنا يا أمة الله ادعي لنا فقالت جعل الله قراكم في بيتي المغفرة ثم قالت لنا مكث عطاء السلمي أربعين سنة فكان لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيا عليه فأصابه فتق في بطنه فيا ليت غفيرة إذ رفعت رأسها لم تعص ويا ليتها إذا عصت لم تعد ) قال أبو نعيم في الحلية حدثنا أبو محمد بن حيان حدثنا أحمد بن الحسين حدثني أبو عبد الله بن عبيدة قال سمعت غفيرة تقول لم يرفع عطاء رأسه إلى السماء ولم يضحك أربعين سنة فرفع رأسه مرة ففزع فسقط ففتق فتقا في بطنه حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن مهدي حدثتني غفيرة العابدة وكانت قد ذهب بصرها من العبادة قالت كان عطاء إذا بكى بكى ثلاثة أيام وثلاث ليال فقالت غفيرة وحدثني إبراهيم المحلمي قال أتيت عطاء السلمي فلم أجده في بيته قال فنظرت فإذا هو في ناحية الحجرة جالس وإذا حوله بلل قال فظننت أنه أثر وضوء توضأه فقالت لي عجوز معه في الدار هذا أثر دموعه .

(وقال بعض الصالحين خرجت يوما إلى السوق ومعي جارية حبشية ) أي : سوداء من سبي الحبش (فاحتبستها في موضع بناحية السوق ) أي : أمرتها أن تمكث فيه (فانصرفت فلم أجدها فانصرفت إلى منزلي وأنا شديد الغضب عليها فلما رأتني عرفت الغضب في وجهي فقالت يا مولاي لا تعجل علي إنك أجلستني في موضع لم أر فيه ذاكرا لله تعالى فخفت أن يخسف بذلك الموضع فعجبت لقولها وقلت أنت حرة ) لوجه الله تعالى (فقالت ساء ما صنعت كنت أخدمك فيكون لي أجران وأما الآن فقد ذهب عني أحدهما ) ويقرب من ذلك ما رواه البيهقي في الشعب عن أبي يوسف يعقوب بن سفيان قال أخبرني بعض شيوخ أهل الكوفة قال كان لآل الحسن بن صالح بن حي خادمة تخدمهم فاحتاجوا إلى بيعها فباعوها فلما كان في الليل ذهبت فألحت على مولاها تقيمه وتقول ذهب الليل مرة بعد مرة حتى أضجرته فصاح بها فلما أصبحت ذهبت إلى عند الحسن [ ص: 141 ] فقالت يا سبحان الله ما كان يجب عليكم فيما خدمتكم أن تبيعوني من مسلم قال فقال الحسن سبحان الله وما له قالت انتظرته أن يقوم ليتهجد فلم يفعل وألححت عليه فزبرني قال فصاح يعلى وقال أما تعجب من هذه اذهب فتسلف ثمنها من بعض إخواننا وأعتقها .

(وقال ابن العلاء السعدي كانت لي ابنة عم يقال لها بريرة تعبدت وكانت كثيرة القراءة في المصحف فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت فلم تزل تبكي حتى ذهبت عيناها من البكاء فقال بنو عمها انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعذلها ) أي : ننصحها (في كثرة البكاء قال فدخلنا عليها فقلنا يا بريرة كيف أصبحت قالت أصبحنا أضيافا منيخين بأرض غربة ننتظر متى ندعى فنجيب فقلنا لها كم هذا البكاء قد ذهبت عيناك منه فقالت إن يكن لعيني عند الله خير فلا يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا ثم أعرضت ) عنا (قال فقال القوم قوموا بنا فهي والله في شيء غير ما نحن فيه ) ، رواه ابن أبي الدنيا (وكانت معاذة ) بنت عبد الله (العدوية ) أم الصهباء البصرية امرأة صلة بن أشيم من العابدات قال ابن معين ثقة حجة وذكرها ابن حبان في كتاب الثقات روى لها الجماعة وروى أبو نعيم بسنده إلى سلمة بن حيان العدوي قال حدثنا الحي أن معاذة العدوية لم توسد فراشا بعد أبي الصهباء حتى ماتت (إذا جاء النهار تقول هذا يومي الذي أموت فيه فما تطعم حتى تمسي فإذا جاء الليل تقول هذه الليلة التي أموت فيها فتصلي حتى تصبح ) قال ابن أبي الدنيا حدثنا محمد بن الحسين حدثنا يحيى بن بسطام حدثنا عمران بن خالد حدثتني أم الأسود بنت يزيد العدوية وكانت معاذة قد أرضعتها قالت قالت لي معاذة لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها والله يا بنية ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش ولا لروح نسيم ولكني والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة قال وحدثنا محمد بن الحسين حدثني روح بن سلمة الوراق قال سمعت غفيرة العابدة تقول بلغني أن معاذة العدوية لما احتضرت للموت بكت ثم ضحكت فقيل لها بكيت ثم ضحكت فمم البكاء ومم الضحك رحمك الله قالت أما البكاء الذي رأيتم فإني والله ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر فكان البكاء لذلك وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار وعليه حلتان خضراوان وهو في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبها فضحكت إليه ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضا قال فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة وروى أبو نعيم من طريق أبي خلدة قال سمعت أبا السوار العدوي يقول لمعاذة العدوية في مسجد في بني عدي تجيء إحداكن المسجد فتضع رأسها وترفع استها فقالت ولم تنظر اجعل في عينيك ترابا ولا تنظر قال وإني والله ما أستطيع إلا أن أنظر ثم اعتذرت فقالت يا أبا سوار إذا كنت في البيت شغلني الصبيان وإذا كنت في المسجد كان أنشط لي قال النشاط أخاف عليك وأبو السوار تابعي ثقة عابد روى له الشيخان وقال أحمد في الزهد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ومعه ابن له فقال أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك فحمل فقاتل حتى قتل ثم تقدم فقتل فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت مرحبا إن كنتن جئتن لتهنئة فمرحبا بكن وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن قال أبو نعيم رواه سيار عن جعفر عن حميد بن دينار عن صلة بنحوه .

(وقال أبو سليمان الداراني ) رحمه الله تعالى (بت ليلة عند رابعة ) العدوية قدس الله سرها (فقامت إلى محراب لها وقمت أنا إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة ) تصلي وتبكي وتدعو (إلى السحر فلما كان السحر قلت ما جزاء من قوانا على قيام هذه الليلة قالت جزاؤه أن تصوم له غدا ) ، رواه البيهقي في الشعب إلا أنه عزاه لجعفر بن سليمان قال ضفت برابعة ذات ليلة فبدرت إلى محرابها وبدرت إلى آخر فلم تزل قائمة حتى أصبحت فقلت لها ما جزاء من قوانا على قيام هذا الليل قالت جزاؤه أن تصوم له النهار (و ) يروى أنه (كانت شعوانة ) رحمها الله تعالى (تقول في دعائها إلهي ما أشوقني إلى لقائك وأعظم رجائي لجزائك وأنت الكريم الذي لا يخيب لديك أمل الآملين ولا يبطل عندك شوق المشتاقين إلهي إن كان دنا أجلي ولم يقربني منك عملي فقد [ ص: 142 ] جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللي فإن عفوت فمن أولى منك بذلك وإن عذبت فمن أعدل منك هنالك إلهي قد جرت على نفسي في النظر لها وبقي لها حسن نظرك فالويل لها إن لم تسعدها إلهي إنك لم تزل برا أيام حياتي فلا تقطع عني برك بعد مماتي ولقد رجوت ممن تولاني في حياتي بإحسانه أن يشفعه عند مماتي بغفرانه إلهي كيف أيؤمن من حسن نظرك بعد مماتي ولم تولني إلا الجميل في حياتي إلهي إن كانت ذنوبي قد أخافتني فإن محبتي لك قد أجارتني فتول من أمري ما أنت أهله وعد بفضلك على من غره جهله إلهي لو أردت إهانتي لما هديتني ولو أردت فضيحتي لم تسترني فمتعني بما له هديتني وأدم لي ما به سترتني إلهي ما أظنك تردني في حاجة أفنيت فيها عمري إلهي لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك ) وهذه مناجاة من شغف حب المولى عز وجل في باطن قلبه واستغرقته مراقبة نعمه وإحسانه ، وقد روى ابن أبي الدنيا عن عبد الله بن محمد قال حدثنا إبراهيم بن عبد الملك قال قدمت شعوانة وزوجها مكة ثم ساق القصة وفيها قال وسمعتها تقول بالفارسية أنبت لكل داء دواء في الجبال ودواء المحبين في الجبال لم ينبت .




الخدمات العلمية