الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الآثار : فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى ، والورع عما حرم الله تعالى ، وصدق النية فيما عند الله تعالى وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية ، فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره .

وقال بعض السلف رب عمل صغير تعظمه النية ، ورب عمل كبير تصغره النية .

وقال داود الطائي البر همته التقوى فلو ، تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوما إلى نية صالحة وكذلك ، الجاهل بعكس ذلك .

وقال الثوري كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل .

وقال بعض العلماء : اطلب النية للعمل قبل العمل ، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير .

وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول : من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى ؛ فإني لا أحب أن يأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله ، فقيل له : قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت ، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله ؛ فإن الهام بعمل الخير كعامله .

وكذلك قال بعض السلف وإن نعمة الله عليكم أكثر من أن تحصوها ، وإن ذنوبكم أخفى من أن تعلموها ، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين يغفر لكم ما بين ذلك .

وقال عيسى عليه السلام : طوبى لعين نامت ولا تهم بمعصية ، وانتبهت إلى غير إثم .

وقال أبو هريرة يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم يبكي ويرددها ويقول إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا .

وقال الحسن: إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات وقال أبو هريرة: مكتوب في التوراة ما أريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غيري فكثيره قليل .

وقال بلال بن سعد إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر في عمله فإذا عمل لم يدعه الله حتى ينظر في ورعه فإن تورع لم يدعه حتى ينظر ماذا نوى ، فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك .

فإذن عماد الأعمال بالنيات فالعمل مفتقر إلى النية ليصير بها خيرا ، والنية في نفسها خير ، وإن تعذر العمل بعائق .

التالي السابق


(وأما الآثار: فقد قال عمر -رضي الله عنه-: أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والورع عما حرم الله تعالى، وصدق النية فيما عند الله تعالى) نقله صاحب القوت .

(وكتب سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب أبو عمر أو أبو عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتا عابدا فاضلا، وكان يشبه بأبيه في الهدى والسمت، وروى له الجماعة، مات في آخر ست بعد المائة على الصحيح (إلى عمر بن عبد العزيز) الأموي، رحمه الله تعالى، وكان قد كتب إليه يستنصحه، فكتب إليه: (اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له وإن نقصت نقص بقدره) كذا في القوت .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا محمد بن يحيى الأزدي، حدثنا سعيد بن سليمان، وقرأته عليه، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن محبر، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله بن عمر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه: من عبيد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى سالم بن عبد الله، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله ابتلاني بما ابتلاني من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني فيها، ولا طلبة مني لها، إلا قضاء الرحمن وقدره، فأسأل الذي ابتلاني من أمر هذه الأمة بما ابتلاني به أن يعينني على ولائي، وأن يرزقني منهم السمع والطاعة وحسن مؤازرة، وأن يرزقهم مني الرأفة والمعدلة، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلي بكتاب عمر بن الخطاب وسيرته وقضاياه في أهل القبلة وأهل العهد، فإني متبع أثر عمر وسيرته إن أعانني الله على ذلك. والسلام .

فكتب إليه سالم بن عبد الله : بسم الله الرحمن الرحيم، من سالم بن عبد الله بن عمر إلى عبد الله عمر أمير المؤمنين: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله خلق الدنيا وما أراد، وجعل لها مدة قصيرة، وكان ما بين أولها وآخرها ساعة من نهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء فقال: كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون لا يقدر منها أهلها على شيء حتى تفارقهم ويفارقونها .

أنزل بذلك كتابه، وبعث به رسله، وشرع فيه دينه، وأنك اليوم يا عمر قد وليت أمرا عظيما، ليس يليه عليك أحد دون الله، قد أفضى فيما بينك وبين الخلائق، فإن استطعت أن تغنم نفسك وأهلك فافعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه كان قبلك رجال عملوا بما عملوا، وأماتوا ما أماتوا من الحق، وأحيوا ما أحيوا من الباطل، حتى ولد فيه رجال ونشأوا فيه، وظنوا أنها السنة، ولم يسدوا على العباد باب رخاء إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت أن تفتح عليهم أبواب الرخاء فإنك لا تفتح منها عليهم بابا إلا سد به عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول: لا أجد من يكفيني عمله؛ فإنك إذا كنت تنزع لله وتعمل لله أتاح الله لك رجالا وكالا بأعمال الله، وإنما العون من الله على قدر النية، فإذا تمت نية العبد تم عون الله له، ومن قصرت نيته قصر من الله العون له بقدر ذلك، فإن استطعت أن تأتي الله يوم القيامة ولا يتبعك أحد بظلم فافعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ثم إنك كتبت إلي تسأل أن أبعث إليك بكتاب عمر بن الخطاب وسيرته وقضائه في المسلمين وأهل العهد، فإن عمر -رضي الله عنه- عمل في غير زمانك، وإني أرجو إن عملت بمثل ما عمل عمر أن تكون عند الله أفضل منزلة من عمر، وقل كما قال العبد الصالح: وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والسلام عليك .

قال: ورواه إسحاق بن سليمان، عن حنظلة بن أبي سفيان قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله فذكره مطولا. ورواه جعفر بن برقان قال: كتب عمر إلى سالم فذكره مختصرا .

ورواه معمر بن سليمان الرقي، عن الفرات بن سلمان قال: كتب عمر إلى سالم، فذكره بطوله .

(وقال بعض السلف) : رأيت الخير إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به خيره، وإن لم تصب (رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية) نقله صاحب القوت .

قال: وكتب بعض الأولياء إلى أخيه: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.

قلت: وسيأتي هذا من حديث معاذ .

(وقال) أبو سليمان (داود) بن [ ص: 12 ] نصير (الطائي) رحمه الله تعالى: (البر همته التقوى، ولو تعلقت جميع جوارحه بالدنيا لردته نيته يوما إلى نية صالحة، فكذلك الجاهل بعكس ذلك) أي: أن الجاهل بالله تعالى وآياته همته الدنيا والهوى، ولو تعلقت جوارحه بكل أعمال الصالحات لكان مرجوعا إلى إرادة الله تعالى وموافقة الهوى؛ لأن سرها كان همة النفس بعاجل عرض الدنيا، كذا في القوت. .

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق محمد بن عبد الوهاب قال: قال داود الطائي : كل نفس ترد إلى همتها، فمهموم بخير ومهموم بشر.

(وقال) سفيان (الثوري) رحمه الله تعالى: (كانوا يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العمل) كذا في النسخ، ولفظ القوت: كما تتعلمون العلم. قال: وقال محمد بن الحسين: ينبغي للرجل أن تكون نيته بين يدي عمله. (وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير) كذا في القوت .

(وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: من يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى؛ فإني لا أحب أن تأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله تعالى، فقيل له: قد وجدت حاجتك فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله؛ فإن الهام بعمل الخير كعامله) نقله صاحب القوت .

قال: وقال زيد بن أسلم: خصلتان هما كمال أمرك: تصبح ولا تهتم لله بمعصية، وتمسي ولا تهتم لله بمعصية.

(وكذلك قال بعض السلف) في معناه: (إن نعمة الله تعالى عليكم أكثر من أن تحصوها، وإن ذنوبكم أخفى من أن تعلموها، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين يغفر لكم ما بين ذلك) نقله صاحب القوت .

(وقال عيسى عليه السلام: طوبى لعين نامت ولا تهتم بمعصية، وانتبهت إلى غير إثم) نقله صاحب القوت .

(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه: (يبعثون يوم القيامة على قدر نياتهم) وهذا قد رواه أحمد من حديثه مرفوعا بلفظ: "يبعث الناس" وقد تقدم .

(وكان الفضيل بن عياض) رحمه الله تعالى: (إذا قرأ) قوله تعالى: ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم يبكي ويرددها ويقول) : يا رب (إنك إن بلوتنا أفضحتنا وهتكت أستارنا) رواه أبو نعيم في الحلية .

(وقال الحسن) البصري رحمه الله تعالى: (إنما خلد أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار بالنيات) نقله صاحب القوت؛ لأن تخليد الله العبد في الجنة ليس بعمله، وإنما هو بنيته؛ لأنه لو كان بعمله كان خلوده فيها بقدر مدة عمله أو أضعافه، لكنه جازاه بنيته؛ لأنه كان ناويا أن يطيع الله أبدا لو بقي أبدا، فلما اخترمته جوزي بنيته، وكذا الكافر؛ لأنه لو جوزي بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر مدة كفره، لكنه نوى الإقامة على كفره أبدا لو بقي فجوزي بنيته .

(وقال) أبو عمرو (بلال بن سعد) بن تميم الأشعري، ثقة، عابد، فاضل، مات في خلافه هشام، روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود في القدر، والنسائي : (إن العبد ليقول قول مؤمن فلا يدعه الله عز وجل وقوله حتى ينظر ماذا نوى، فإن صلحت نيته فبالحري أن يصلح ما دون ذلك) رواه البيهقي في الشعب .

فإذا: عماد الأعمال النيات، والقطب الذي عليه المدار، والوسيلة بعد الإيمان إلى السعادة العظمى في الأولى والعقبى .

(فالعمل مفتقر إلى النية ليصير بها خيرا، والنية في نفسها خير، وإن تعذر العمل بعائق) وليس للشرع عناية في طاعة من الطاعات بعد الإيمان بالله أعظم من اعتنائه بالنية؛ إذ صحة العبادات أجمعها موقوفة على وجودهما، يعني الإيمان والنية، فهي تلي الإيمان في الرتبة، والشرط في صحة الأعمال، فحينئذ يجب عليك فهم حقيقتها وتخليصها مما يشوبها من الحظوظ الدنيوية وجوبا، وعن الأعراض والعوارض الأخروية استحبابا، ثم تفصيل أعمالها وطريق اكتسابها .




الخدمات العلمية