الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكان الربيع بن خيثم قد حفر في داره قبرا ، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع ومكث ما شاء الله ، ثم يقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت يرددها ، ثم يرد على نفسه : يا ربيع قد رجعتك فاعمل .

وقال أحمد بن حرب تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه ويسوي فراشه للنوم فتقول : يا ابن آدم لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء وقال ميمون بن مهران خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ، ثم أقبل علي فقال : يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم ، أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات ، واستحكم فيهم البلى ، وأصابت الهوام مقيلا في أبدانهم ، ثم بكى ، وقال : والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله .

وقال ثابت البناني دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول : يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها .

ويروى أن فاطمة بنت الحسن نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين فغطت وجهها وقالت .

:

وكانوا رجاء ثم أمسوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

وقيل : إنها ضربت على قبره فسطاطا ، واعتكفت عليه سنة .

فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط ، ودخلت المدينة فسمعوا صوتا من جانب البقيع هل وجدوا ما فقدوا ، فسمعوا من الجانب الآخر بل يئسوا فانقلبوا .

وقال أبو موسى التميمي توفيت امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه البصرة وفيهم الحسن فقال له الحسن : يا أبا فراس ماذا أعددت لهذا اليوم ؟ فقال : شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة ، فلما دفنت أقام الفرزدق على قبرها فقال .

:

أخاف وراء القبر إن لم تعافني     أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد     عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى     إلى النار مغلول القلادة أزرقا

وقد أنشدوا في أهل القبور :


قف بالقبور وقل على ساحاتها     من منكم المغمور في ظلماتها
ومن المكرم منكم في قعرها     قد ذاق برد الأمن من روعاتها
أما السكون لذي العيون فواحد     لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن     تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة     يفضي إلى ما شاء من دوحاتها
والمجرم الطاغي بها متقلب     في حفرة يأوي إلى حياتها
وعقارب تسعى إليه فروحه     في شدة التعذيب من لدغاتها

ومر داود الطائي على امرأة تبكي على قبر وهي تقول .

:

عدمت الحياة ولا نلتها     إذا كنت في القبر قد ألحدوكا
فكيف أذوق طعم الكرى     وأنت بيمناك قد وسدوكا

ثم قالت: يا أبتاه ليت شعري بأي خديك بدأ الدود ؟ فصعق داود مكانه وخر مغشيا عليه .

وقال مالك بن دينار مررت بالمقبرة فأنشأت أقول .

:

أتيت القبور فناديتها     فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه     وأين المزكى إذا ما افتخر

قال : فنوديت من بينها أسمع صوتا ولا أرى شخصا وهو يقول .

:

تفانوا جميعا فما مخبر     وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى     فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا     أما لك فيما ترى معتبر

قال : فرجعت وأنا باك أبيات وجدت مكتوبة على القبور .

وجد مكتوبا على قبر :

:

تناجيك أجداث وهن صموت     وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة     لمن تجمع الدنيا وأنت تموت

ووجد على قبر آخر مكتوبا :

:

أبا غانم أما ذراك فواسع     وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المقبور عمران قبره     إذا كان فيه جسمه يتهدم

، وقال ابن السماك: مررت على المقابر فإذا على قبر مكتوب .


يمر أقاربي جنبات قبري     كأن أقاربي لم يعرفوني
ذوو الميراث يقتسمون مالي     وما يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا     فيا لله أسرع ما نسوني

ووجدوا على قبر مكتوبا .


إن الحبيب من الأحباب مختلس     لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها     يا من يعد عليه اللفظ والنفس
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا     وأنت دهرك في اللذات منغمس
لا يرحم الموت ذا جهل لغرته     ولا الذي كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به     عن الجواب لسانا ما به خرس
قد كان قصرك معمورا له شرف     فقبرك اليوم في الأجداث مندرس

ووجد على قبر آخر مكتوبا .

:

وقفت على الأحبة حين صفت     قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي     رأت عيناي بينهم مكاني

ووجد على قبر طبيب مكتوبا .


قد قلت لما قال لي قائل     صار لقمان إلى رمسه
فأين ما يوصف من طبه     وحذقه في الماء مع جسه
هيهات لا يدفع عن غيره     من كان لا يدفع عن نفسه

ووجد على قبر آخر مكتوبا .

يا :

أيها الناس كان لي أمل     قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل     أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نقلت حيث ترى     كل إلى مثله سينتقل

فهذه أبيات كتبت على قبور لتقصير سكانها عن الاعتبار قبل الموت .

والبصير هو الذي ينظر إلى غيره فيرى مكانه بين أظهرهم فيستعد للحوق بهم ، ويعلم أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يلحق بهم وليتحقق أنه لو عرض عليهم يوم من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها لأنهم عرفوا قدر الأعمال وانكشفت لهم حقائق الأمور فإنما حسرتهم على يوم من العمر ليتدارك المقصر به تقصيره فيتخلص من العقاب وليستزيد ، الموفق به رتبته فيتضاعف له الثواب ، فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه ، فحسرتهم على ساعة من الحياة وأنت قادر على تلك الساعة ، ولعلك تقدر على أمثالها ، ثم أنت مضيع لها فوطن نفسك على التحسر على تضييعهما عند خروج الأمر من الاختيار إذا لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الابتدار ، فقد قال بعض الصالحين : رأيت أخا لي في الله فيما يرى النائم فقلت : يا فلان عشت الحمد لله رب العالمين قال ، لأن أقدر على أن أقولها يعني الحمد لله رب العالمين أحب إلي من الدنيا وما فيها ، ثم قال : ألم تر حيث كانوا يدفنونني فإن فلانا قد قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها .

التالي السابق


(وكان الربيع بن خيثم) الثوري الكوفي العابد (قد حفر في داره قبرا، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع ومكث ما شاء الله، ثم يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت يرددها، ثم يرد على نفسه: يا ربيع قد رجعتك فاعمل) .

رواه أبو نعيم في الحلية (وقال أحمد بن حرب) النيسابوري الزاهد: روى عن ابن عيينة قال الذهبي: صاحب مناكير (تتعجب الأرض من رجل يمهد مضجعه ويسوي فراشه للنوم فتقول: يا ابن آدم لم لا تذكر طول بلاك وما بيني وبينك شيء) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (وقال ميمون بن مهران) الجرزي الثقة كاتب عمر بن عبد العزيز: (خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى، ثم أقبل علي فقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم وعيشهم، أما نراهم صرعى قد حلت بهم المثلات، واستحكم فيهم البلى، وأصابت الهوام مقيلا في أبدانهم، ثم بكى، وقال: والله ما أعلم أحدا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد آمن من عذاب الله) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور، قال: حدثني محمد بن الحسين، حدثني أبو منصور الواسطي، حدثنا المغيرة بن مطرف الرؤاسي، حدثنا خالد بن صفوان عن ميمون بن مهران قال: خرجت مع عمر بن عبد العزيز فذكره إلا أنه قال: ثم أقبل علي فقال: يا أيوب، وفيه: ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فقال: انطلق بنا فوالله ما أعلم أحدا والباقي سواء، وقد أخرجه أبو نعيم في الحلية من طريقه فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن أبان، حدثني أبي، حدثنا أبو بكر بن سفيان وهو ابن أبي الدنيا نسبة إلى جده (وقال) أبو محمد (ثابت) ابن أسلم (البناني) رحمه الله تعالى: (دخلت المقابر فلما قصدت الخروج منها فإذا بصوت قائل يقول: يا ثابت لا يغرنك صموت أهلها فكم من نفس مغمومة فيها) .

رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بلفظ: كنت في مقبرة فحدثت نفسي إذ هتف بي هاتف إن تراهم ساكنين فكم فيهم من مغموم، فالتفت فلم أر أحدا، وروى صاحب الحلية عن ابن السماك قال: لا يغرنكم سكون هذه القبور فما أكثر المغمومين فيها! ولا يغرنكم استواؤها فما أشدها وهم فيها! (ويروى أن فاطمة بنت الحسن نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين) هكذا في نسخ الكتاب، ولعل الصواب أن فاطمة بنت الحسين نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسن وهي والدة عبد الله المحض، وإنما لقب بذلك لمكان أمه فاطمة بنت الحسين [ ص: 355 ] ابن علي بن أبي طالب ووالده هو الحسن المثنى بن الحسن السبط (فغطت وجهها وقالت:


وكانوا رجاء ثم أمسوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت



وقيل: إنها ضربت على قبره فسطاطا، واعتكفت عليه سنة فلما مضت السنة قلعوا الفسطاط، ودخلت المدينة فسمعوا أصواتا من جانب البقيع هل وجدوا ما فقدوا، فسمعوا من الجانب الآخر يئسوا فانقلبوا) .

وكان وفاة الحسن المثنى في زمن الوليد بن عبد الملك وعمره خمس وثلاثون سنة، وكان قد شهد الطف مع عمه الحسين، وأثخن بالجراح فحماه أسماء بن خارجة الفزاري، وهو من أخواله، وكان عبد الرحمن بن أحمد بن الأشعث قد دعا إليه وبايعه، فلما قتل عبد الرحمن توارى الحسن حتى مات، وكان الحسن قد خطب إلى عمه الحسين إحدى بناته فأبرز إليه فاطمة وسكينة فقال: يا ابن أخي اختر أيتهما شئت، فاستحيا الحسن وسكت، فقال الحسين: قد زوجتك فاطمة فإنها أشبه الناس بأبي، (وقال أبو موسى التميمي) البصري: إسرائيل بن موسى ثقة، روى له البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي (توفيت) النوار (امرأة الفرزدق) غالب بن ناجية بن مقال بن صعصعة التميمي الشاعر المشهور (فخرج في جنازتها وجوه البصرة) أي رؤساؤها (وفيهم الحسن) البصري رحمه الله تعالى (فقال له الحسن: يا أبا فراس) وهي كنية الفرزدق: (ماذا أعددت لهذا اليوم؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة، فلما دفنت أقام على قبرها فقال:


أخاف وراء القبر إن لم تعافني     أشد من القبر التهابا وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد     عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى     إلى النار مغلول القلادة أزرقا )



وروى ابن عساكر في التاريخ من طريق حجاج بن تميلة، قال: شهدت الحسن والفرزدق عند قبر فقال الحسن للفرزدق: ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، فسكت الحسن، قال لبطة بن الفرزدق: فرأيت أبي في النوم بعد موته فقال لي: يا بني نفعتني الكلمة التي خاطبت بها الحسن، وقال محمود بن محمد في كتاب المتفجعين: حدثنا محمد بن موسى العمي، حدثنا محمد بن عبد المنعم بن إدريس، حدثنا هشام بن الكلبي عن أبيه وعوانة، قالا: بلغ الفرزدق سنا حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة وهو بالبادية، فقدم به البصرة فأتي برجل من بني قيس بن ثعلبة يتطبب فسقاه القار الأبيض فجعل يقول: ويحكم أتعجلون إلى القار في الدنيا قبل الآخرة؟ فمات وصلى عليه بلال بن أبي بردة، قال: وحدثنا أحمد بن الأسود الحنفي، حدثنا محمد بن أبي صفوان الثقفي عن الأصمعي، قال: لما احتضر الفرزدق أوصى وأعتق رقيقه، ثم أنشأ يقول:


أروني من يقوم لكم مقامي     إذا ما الأمر جل عن الخطاب
إلى من تفزعون إذا حثوتم     بأيديكم علي من التراب



فقالت جارية مما كان أعتق: نفزع إلى الله تعالى؟ فقال: يا فاعلة امحوا أسمها من العتق (وقد أنشدوا في أهل القبور) أبياتا سيذكر بعضها منها قول بعضهم:


(قف بالقبور وقل على ساحتها     من منكم المغمور في ظلماتها
ومن المكرم منكم في قعرها     قد ذاق برد الأمر من روعاتها
أما السكون لذي العيون فواحد     لا يستبين الفضل في درجاتها
لو جاوبوك لأخبروك بألسن     تصف الحقائق بعد من حالاتها
أما المطيع فنازل في روضة     يقضي إلى ما شاء من روحاتها
والمجرم الطاغي بها متقلب     في حفرة يأوي إلى حياتها
وعقارب تسعى إليه فروحه     في شدة التعذيب من لدغاتها

ومر) أبو سليمان (داود) بن نصير (الطائي) رحمه الله تعالى (على امرأة تبكي على قبر وهي تقول:

[ ص: 356 ]

عدمت الحياة ولا نلتها     إذا كنت في القبر قد ألحدوكا
فكيف أذوق طعم الكرى     وأنت بيمناك قد وسدوكا



ثم قالت: يا أبتاه ليت شعري بأي خديك بدأ الدود؟ فصعق داود مكانه وخر مغشيا عليه) .

رواه القشيري في الرسالة، وقيل: كان ذلك سبب توبته (وقال) أبو يحيى (مالك بن دينار) البصري الزاهد رحمه الله تعالى: (مررت بالمقبرة فأنشأت أقول:


أتيت القبور فناديتها     فأين المعظم والمحتقر
وأين المدل بسلطانه     وأين المزكى إذا ما افتخر



قال: فنوديت من بينها أسمع صوتا ولا أرى شخصا وهو يقول:


تفانوا جميعا فما مخبر     وماتوا جميعا ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى     فتمحو محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا     أما لك فيمن ترى معتبر



قال: فرجعت وأنا باك) .

وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا هارون بن عبد الله، حدثنا سيار، حدثنا جعفر قال: كنا نخرج مع مالك بن دينار زمن الحطمة فيجيء الموتى فيجهزهم، ثم يخرج على حمار قصير وعليه عباءة مرتديا بها، قال: فيقول: فيعظنا في الطريق حتى إذا أشرف على القبور وأحس بنا أقبل بصوت له محزون يقول:


ألا حي القبور ومن بهنه     وجوه في التراب أجنهنه
فلو أن القبور أجبن حيا     إذا لأجبنني إذ زرتهنه
ولكن القبور صمتن عني     فعدت حزينا من عندهنه



قال: فإذا سمعنا صوته جئنا إليه فيقول: إنما الخير في الشباب إنما الخير في الشباب، قال: ثم يجمعهم فيصلي عليهم هذه (أبيات وجدت مكتوبة على القبور) فمن ذلك (وجد مكتوبا على قبر:


تناجيك أحداث وهن صموت     وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغه     لمن تجمع الدنيا وأنت تموت )



أورده ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووجد على قبر آخر مكتوب:


أبا غانم أما ذراك فواسع     وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المعمور عمران قبره     إذا كان فيه جسمه يتهدم )



نقله ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (وقال ابن السماك) محمد بن صبيح البغدادي الواعظ: (مررت بالمقابر فإذا قبر مكتوب) عليه ما صورته:


( يمر أقاربي من جنبات قبري     كأن أقاربي لم يعرفوني
وذوو الميراث يقتسمون مالي     وما يألون إن جحدوا ديوني
وقد أخذوا سهامهم وعاشوا     فيا لله أسرع ما نسوني )



ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور، وروى أبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن محمد بن عصمة بن أبي الصهباء، قال: قال محمد بن السماك: لا يغرنكم سكون هذه القبور فما أكثر المغمومين فيها! ولا يغرنكم استواؤها فما أشد نهارهم فيها (ووجد على قبر مكتوب) ما صورته:

(

إن الحبيب من الأحباب مختلس     لا يمنع الموت بواب ولا حرس
فكيف تفرح بالدنيا ولذتها     يا من يعد عليه اللفظ والنفس
أصبحت يا غافلا في النقص منغمسا     وأنت دهرك في اللذات منغمس
[ ص: 357 ] لا يرحم الموت ذا جهل لغرته     ولا الذي كان منه العلم يقتبس
كم أخرس الموت في قبر وقفت به     عن الجواب لسانا ما به خرس
قد كان قصرك معمورا له شرف     فقبرك اليوم في الأجداس مندرس )



رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووجد على قبر آخر مكتوب:


وقفت على الأحبة حين صفت     قبورهم كأفراس الرهان
فلما أن بكيت وفاض دمعي     رأت عيناي بينهم مكاني )



رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووجد على قبر طبيب مكتوب) ما صورته:


( قد قلت لما قال لي قائل     قد سار لقمان إلى رمسه
فأين ما يوصف من طبه     وحذقه في الماء مع جسه
هيهات لا يدفع عن غيره     من كان لا يدفع عن نفسه)



أورده ابن أبي الدنيا في كتاب القبور (ووجد على قبر آخر مكتوب:


يا أيها الناس كان لي أمل     قصر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجل     أمكنه في حياته العمل
ما أنا وجدي نقلت حيث ترى     كل إلى مثله سينتقل )



كذا في كتاب القبور لابن أبي الدنيا، وقال أبو نعيم في الحلية: حدثنا فاروق، حدثنا هشام بن علي السيرافي، حدثنا قطر بن حماد بن واقد، حدثنا مالك بن دينار، قال: أتيت على قبر فإذا عليه مكتوب:


يا أيها الركب سيروا إن قصركم     أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها     قبل الممات ونصوا ما ينصونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا     دهر فسوف كما كنا تكونونا



وروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن سليمان بن يسار الحضرمي قال: كان قوم يسيرون يوما بالمقابر إذ سمعوا من قبر قائلا يقول:


أيها الركب سيروا     من قبل أن تسيرونا
فكما كنتم كنا فغيرنا     ريب المنون وسوف كما كنا تكونونا

قلت: ووجدت في رحله الإمام أبي سالم العياشي أنه أمر بعضهم أن يكتب على قبره:


إذا أمسى فراشي من تراب     وصرت مجاور الرب الرحيم
فهنوني أخلائي وقولوا     هنيئا قد قدمت على كريم



وقد كتبتهما على قبر زوجي أم الفضل زبيدة ابنة المرحوم ذي الفقار الدمياطي رحمهما الله تعالى، وأمر آخر أن يكتب على قبره

ولم أجزع لهول الموت ولكن     بكيت لقلة الباكي علينا

وروى ابن عساكر في التاريخ عن صدقة بن يزيد قال: نظرت إلى ثلاثة أقبر على شرف من الأرض بناحية أطرابلس أحدها مكتوب عليه:


وكيف يلذ العيش من هو موقن     بأن المنايا بغتة ستعاجله
وتسلبه ملكا عظيما ونخوة     وتسكنه البيت الذي هو آجله

وعلى القبر الثاني:


وكيف يلذ العيش من هو عالم     بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه ظلمه لعباده     ويجزيه بالخير الذي هو فاعله

وعلى القبر الثالث:


وكيف يلذ العيش من هو صائر     إلى جدث تبلي الشباب منازله
وتذهب حسن الوجه من بعد ضوئه     سريعا ويبلى جسمه ومفاصله

فنزلت قرية بالقرب منها فقلت لشيخ بها قد رأيت عجبا قال: وما ذاك؟ قلت: هذه القبور قال: حديثها أعجب مما رأيت عليها .

قلت: فحدثني قال: كانوا ثلاثة إخوة واحد يصحب السلطان، ويؤمر على الجيوش والبلدان وآخر تاجر موسر مطاع في تجارته، وآخر زاهد قد تخلى، وتفرد لعبادة ربه فحضرت العابد الوفاة فأتاه أخوه صاحب السلطان، وكان عبد الملك بن مروان قد ولاه بلادنا، وأتاه التاجر فقالا له توصي بشيء، قال: والله ما لي مال أوصي فيه ولا علي دين أوصي به ولا أخلف من الدنيا عرضا، ولكن أعهد إليكما عهدا فلا تخلفاه إذا مت فادفناني على نشز من الأرض [ ص: 358 ] واكتبا على قبري "كيف يلذ العيش" البيتين، ثم زورا قبري ثلاثة أيام لعلكما تتعظان ففعلا ذلك، فلما كان اليوم الثالث أتى أخوه صاحب السلطان القبر، فلما أراد الانصراف سمع من داخل القبر هدة أرعبته وأفزعته فانصرف مذعورا وجلا، فلما كان الليل رأى أخاه في منامه، فقال: أي أخي ما الذي سمعت من قبرك؟ قال: تلك هدة المقمعة، قيل لي: رأيت مظلوما فلم تنصره فأصبح فدعا أخاه وخاصته، فقال: إني أشهدكم أني لا أقيم بين ظهرانيكم أبدا فترك الإمارة، ولزم العبادة وكان مأواه البراري والجبال وبطون الأودية فحضرته الوفاة فحضره أخوه، فقال: يا أخي ألا توصي؟ قال: ما لي مال ولا علي دين ولكن أعهد إليك يا أخي إذا أنا مت فاجعل قبري إلى جانب قبر أخي، واكتب عليه "وكيف يلذ العيش" البيتين، ثم تعاهد قبري ثلاثا، فلما مات فعل أخوه ذلك فلما كان في اليوم الثالث من إتيانه القبر أراد أن ينصرف فسمع وجبة من القبر كادت تذهل عقله فرجع مرهوبا، فلما كان الليل رأى أخاه في منامه، فقال: كيف أنت؟ قال: بكل خير وما أجمع التوبة لكل خير قال: فكيف أخي؟ قال: مع الأئمة الأبرار، قال: فما أمرنا قبلكم، قال: من قدم شيئا وجده فاغتنم وجدك قبل فقدك فأصبح الأخ الثالث معتزلا للدنيا وفرق ماله وأقبل على طاعة الله، وأنشأ ابن له في المكاسب حتى أتت أباه الوفاة فقال: يا أبت ألا توصي؟ فقال: يا بني ما لي مال فأوصي فيه، ولكن أعهد إليك إذا أنا مت أن تدفنني مع عميك وأن تكتب على قبري، "وكيف يلذ العيش" البيتين، ثم تعاهد قبري ثلاثا، ففعل الفتى ذلك، فلما كان اليوم الثالث سمع من القبر صوتا هاله فانصرف مهموما، فلما كان الليل رأى أباه في منامه، فقال: يا بني أنت عندنا عن قليل، والأمر جد فاستعد وتأهب لرحيلك وطول سفرك وحول جهازك من المنزل الذي أنت عنه ظاعن إلى المنزل الذي أنت له قاطن، ولا تغتر بما اغتر به الباطلون من طول آمالهم فقصروا في أمر معادهم، فندموا عند الموت وأسفوا على تضييع العمر، فلا الندامة عند الموت تنفعهم ولا الأسف على التقصير أنقذهم أي بني فبادر، ثم بادر، ثم بادر، قال الشيخ: فدخلت على الفتى صبيحة رؤياه فقصها علي وقال: ما أرى إذ مر الذي قال أبي إلا وقد أظلني ولا أحسب بقي من أجلي إلا ثلاثة أشهر أو ثلاثة أيام لأنه أنذرني بالمبادرة ثلاثا، فلما كان آخر اليوم الثالث دعا أهله وولده فودعهم، ثم استقبل وتشهد، ثم مات من الليل (فهذه أبيات كتبت على قبور لتقصير سكانها عن الاعتبار قبل الموت) لأجل أن يعتبر بها قارئها ويترحم على الأموات (والبصير هو الذي ينظر إلى قبر غيره فيرى مكانه بين أظهرهم فيستعد للحوق بهم، ويعلم أنهم لا يبرحون عن مكانهم ما لم يلحق بهم) .

ولذلك قال داود الطائي لما سأله رجل النصيحة: إن عسكر الموتى ينتظرونك كما في الحلية (وليتحقق أنه لو عرض عليهم يوما من أيام عمره الذي هو مضيع له لكان ذلك أحب إليهم من الدنيا بحذافيرها) أي: بأجمعها (لأنهم عرفوا قدر الأعمال وانكشفت لهم حقائق الأمور) التي كانت غائبة عنهم (فإنما حسرتهم يوم من العمر ليتدارك المقصر به تقصيره فيتخلص من العقاب، ويستزيد الموفق به رتبته فيتضاعف له الثواب، فإنهم إنما عرفوا قدر العمر بعد انقطاعه، فحسرتهم على ساعة من الحياة وأنت قادر على تلك الساعة، ولعلك تقدر على أمثالها، ثم أنت مضيع لها فوطن نفسك على التحسر على تضييعها عند خروج الأمر من الاختيار إذا لم تأخذ نصيبك من ساعتك على سبيل الابتدار، فقد قال بعض الصالحين: رأيت أخا في الله فيما يرى النائم فقلت: يا فلان عشت الحمد لله رب العالمين، لأن أقدر على أن أقولها يعني الحمد لله رب العالمين أحب إلي من الدنيا وما فيها، ثم قال: ألم تر حيث كانوا يدفنوني فإن فلانا قد قام فصلى ركعتين لأن أكون أقدر على أن أصليهما أحب إلي من الدنيا وما فيها) .

وروى أبو نعيم في الحلية من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن حلبس أنه كان يمر على المقابر بدمشق يهجر يوم الجمعة فسمع قائلا يقول: هذا يونس بن حلبس قد هجر تحجون وتعتمرون كل شهر وتصلون كل يوم خمس صلوات أنتم تعملون ولا تعلمون ونحن نعلم ولا نعمل، قال: فالتفت يونس فسلم فلم يردوا عليه قال: سبحان الله! أسمع كلامكم وأسلم عليكم فلا تردون؟ قالوا: قد سمعنا كلامك، ولكنها حسنة، وقد حيل بيننا وبين الحسنات والسيئات .

قلت: هو يونس بن ميسرة بن حلبس تابعي ثقة، وقد نسب إلى جده، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وروى ابن عساكر من طريق الأوزاعي قال: مر يونس بن حلبس بمقابر باب توما وقائد يقوده، وكان مكفوفا فقال: السلام [ ص: 359 ] عليكم أهل القبور أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، فرحمنا الله وإياكم، وغفر لنا ولكم، فكأنا قد صرنا إلى ما صرتم إليه، فرد الله الروح في رجل منهم فأجابه فقال: طوبى لكم يا أهل الدنيا حين تحجون في الشهر أربع مرات، فقال: وإلى أين يرحمك الله؟ قال: إلى الجمعة أفما تعملون أنها حجة مبرورة متقبلة قال: ما خير ما قدمتم؟ قال: الاستغفار، وقد غلقت رهوننا فلا في حسنة نزيد، ولا من سيئة ننقص، وروى صاحب كتاب المتفجعين من طريق قتادة قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضر الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله عز وجل، ومن طريق الأصمعي قال: كان حماد بن سلمة إذا نعي إليه أحد من إخوانه صلى ركعتين، وترحم على الميت، وقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ،الحمد لله الذي أعطانيهن بعده .




الخدمات العلمية