الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قالت عائشة ، رضي الله عنها : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ارتفاع الضحى وانتصاف النهار يوم الاثنين قالت فاطمة رضي الله عنها : ما لقيت من يوم الاثنين ، والله لا تزال الأمة تصاب فيه بعظيمة وقالت أم كلثوم يوم أصيب علي كرم الله وجهه بالكوفة مثلها ما لقيت من يوم الاثنين ، مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قتل علي كرم ، وفيه قتل أبي فما لقيت من يوم الاثنين وقالت عائشة رضي الله عنها : لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتحم الناس حين ارتفعت الرنة وسجى رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة بثوبي ، فاختلفوا فكذب بعضهم بموته ، وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد البعد ، وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان وبقي آخرون معهم عقولهم ، وأقعد آخرون ، فكان عمر بن الخطاب فيمن كذب بموته علي فيمن أقعد وعثمان فيمن أخرس .

فخرج عمر على الناس ، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت وليرجعنه الله عز وجل وليقطعن أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الموت ، إنما واعده الله عز وجل كما واعد موسى وهو آتيكم ، وفي رواية أنه قال : يا أيها الناس كفوا ألسنتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يمت ، والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات إلا علوته بسيفي هذا ، وأما علي فإنه أقعد فلم يبرح في البيت .

وأما عثمان فجعل لا يكلم أحدا ، يؤخذ بيده فيجاء به ويذهب به ، ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعباس فإن الله عز وجل أيدهما بالتوفيق والسداد ، وإن كان الناس لم يرعووا إلا بقول أبي بكر حتى جاء العباس فقال : والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت ، ولقد قال وهو بين أظهركم : إنك ميت وإنهم ميتون ، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون .

وبلغ أبا بكر الخبر وهو في بني الحارث بن الخزرج فجاء ودخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه .

ثم أكب عليه فقبله ثم قال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما كان الله تعالى ليذيقك الموت مرتين فقد والله توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى الناس فقال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فإنه حي لا يموت . قال الله تعالى : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم الآية ، فكأن الناس لم يسمعوا هذه الآية إلا يومئذ وفي رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما بلغه الخبر دخل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان وغصصه ترتفع كقصع الجرة وهو في ذلك جلد الفعل والمقال فأكب عليه فكشف عن وجهه ، وقبل جبينه وخديه ، ومسح وجهه ، وجعل يبكي ويقول : بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ، طبت حيا وميتا ، انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء والنبوة ، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرنا فيك سواء ، ولولا أن موتك كان اختيارا منك لجدنا لحزنك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك ماء العيون فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وادكار محالفان لا يبرحان ، اللهم فأبلغه عنا ، اذكرنا يا محمد صلى الله عليك عند ربك ولنكن من بالك ، فلولا ما خلفت من السكينة لم يقم أحد لما خلفت من الوحشة ، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا .

التالي السابق


(قالت عائشة، رضي الله عنها: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين ارتفاع الضحى وانتصاف النهار يوم الإثنين) قال: العراقي: رواه ابن عبد البر. انتهى .

قلت: وجزم موسى بن عقبة، عن الزهري بأنه -صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة وروى ابن سعد من طريق ابن أبي مليكة، عن عائشة أن دخول النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيتها كان يوم الإثنين، وموته يوم الإثنين (قالت فاطمة -رضي الله عنها-: ما لقيت من يوم الإثنين، والله لا تزال الأمة تصاب فيه بعظيمة) أي: بمصيبة شديدة (وقالت أم كلثوم) ابنة علي وأمها فاطمة، رضي الله عنهم: ولدت في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- قال أبو عمر: ولدت قبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وروى ابن أبي عمر المدني في مسنده، حدثني سفيان عن عمرو عن محمد بن علي أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم فذكر له صغرها، فقيل له: إنه ردك، فعاوده فقال له علي: أبعث بها إليك فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل بها إليه فكشف عن ساقها، فقالت: مه، لولا أنك أمير المؤمنين لطمت عينك، وقال ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده: تزوج عمر أم كلثوم على مهر أربعين ألفا، وقال الزبير: ولدت لعمر ابنيه زيدا ورقية، وماتت أم كلثوم وولدها في يوم واحد، وذكر الدارقطني في كتاب الأخوة أنه تزوجها بعد موت عمر عون بن جعفر بن أبي طالب فمات عنها، فتزوجها أخوه محمد، ثم مات عنها فتزوجها أخوه عبد الله بن جعفر، فماتت عنده، قال ابن سعد: ولم تلد لأحد من بني جعفر (يوم أصيب علي -كرم الله وجهه- بالكوفة مثلها) أي: مثل هذه المقالة (ما لقيت من يوم الإثنين، مات فيه جدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه قتل عمر بعلي، وفيه قتل) علي (أبي) رضي الله عنهم، فما لقيت من يوم الإثنين. هكذا روى عنها .

ولكن في قتل عمر اختلاف، فروى سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة أن عمر أصيب يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وكذا قال أبو معشر وغيره عن زبيد بن أسلم، وزاد إسماعيل بن محمد بن سعد، عن زيد: أنه دفن يوم الأحد مستهل سنة أربع، وقال الليث وجماعة: قتل يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة .

(وقالت عائشة -رضي الله عنها-: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اقتحم الناس) أي: دخلوا (حين ارتفعت الرنة) أي: صوت البكاء (وسجى) أي: غطى (رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الملائكة بثوبي، فاختلفوا فكذب بعضهم بموته، وأخرس بعضهم فما تكلم إلا بعد البعد، وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان) أي: إفصاح (وبقي آخرون معهم عقولهم، وأقعد فما تكلم آخرون، فكان عمر بن الخطاب) -رضي الله عنه- (فيمن كذب بموته) وكان (علي) -رضي الله عنه- (فيمن أقعد) وكان (عثمان) -رضي الله [ ص: 298 ] عنه- (فيمن أخرس، فخرج عمر على الناس، وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمت وليرجعنه الله -عز وجل- وليقطعن أيدي وأرجلا من رجال المنافقين يتمنون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- الموت، إنما واعده الله -عز وجل- كما واعد موسى) -عليه السلام- (هو آتيكم، وفي رواية أنه قال: يا أيها الناس كفوا ألسنتكم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه لم يمت، والله لا أسمع أحدا يذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات إلا علوته بسيفي هذا، وأما علي فإنه أقعد فلم يبرح في البيت، وأما عثمان فجعل لا يكلم أحدا، يؤخذ بيده فيجاء به ويذهب به، ولم يكن أحد من المسلمين في مثل حال أبي بكر والعباس) رضي الله عنهما (فإن الله -عز وجل- عزم لهما على التوفيق والسداد، وإن كان الناس لم يرعووا) أي: لم ينكفوا (إلا بقول أبي بكر) -رضي الله عنه- .

(جاء العباس فقال: والله الذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الموت، ولقد قال وهو بين أظهرنا: إنك ميت وإنهم ميتون، ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) قال العراقي: هذا السياق بطوله منكر، لم أجد له أصلا، انتهى .

قلت:بل رواه ابن أبي الدنيا من حديث ابن عمر بسند ضعيف، وعزاه صاحب المواهب لابن المنير،قال: لما مات -صلى الله عليه وسلم- طاشت العقول فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق النطق بالكلام، ومنهم من أضني، وكان عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس، يذهب به ويجاء ولا يستطيع النطق، وكان علي ممن أقعد فلا يستطيع حراكا، وأضني عبد الله بن أنيس فمات كمدا، وكان أثبتهم أبو بكر -رضي الله عنه-.

وأما قول عمر المذكور فرواه البخاري عن عائشة: أن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه قول أبي بكر له : أيها الحالف على رسلك كما سيأتي .

وعزا الطبري في الرياض النضرة إلى تخريج الحافظ أبي محمد حمزة بن الحارث، عن سالم بن عبيد الأشجعي، قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس عمر بن الخطاب، قال: فأخذ بقيام سيفه وقال: لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال فقال الناس: يا سالم اطلب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فخرجت إلى المسجد فإذا بأبي بكر، فلما رأيته أجهشت بالبكاء: فقال: يا سالم، أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقلت: إن عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا. الحديث .

وذكر الطبري أيضا أنه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سل عمر سيفه وتوعد من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام- فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم.

وروى أحمد من حديث عائشة قالت: سجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبا فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنوا فأذنت لهما وجذبت الحجاب فنظر عمر إليه فقال: واغشياه ، ثم قاما فقال المغيرة لعمر: يا عمر، مات، قال: كذبت إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى ينفي الله المنافقين.

وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين.

(وبلغ أبا بكر) رضي الله عنه (الخبر وهو في بني الحارث بن الخزرج) قبيلة من الأنصار وكانت مساكنهم بالسنح قرب المدينة وكان أبو بكر تزوج حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأغر الأنصارية، كذا نسبها ابن سعد، وكان قد سكن بها هناك، وفي رواية عروة عن عائشة: استأذن أبو بكر لما رأى من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي بنت خارجة فأذن له فجاء (ودخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظر ثم أكب عليه فقبله ثم قال: بأبي أنت وأمي، ما كان الله ليذيقك الموت مرتين) وهو على حقيقته، وأشار بذلك للرد على من زعم أنه سيحيى فيقطع أيدي رجال; لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكالذي مر على قرية، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها، وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره إذ يحيى ليسأل ثم يموت، وقيل: لا يجمع بين موتة نفسك وموتة شريعتك، وقيل: كنى بالموت الثاني عن الكرب أي: لا يلقى بعد كرب هذا الموت كربا آخر، كذا في فتح الباري (فقد والله توفي رسول الله صلى [ ص: 299 ] الله عليه وسلم، ثم خرج إلى الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله رب محمد فإنه حي لا يموت. قال الله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم الآية، فكأن الناس لا يسمعوا هذه الآية يومئذ) .

قال العراقي: رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة: أن أبا بكر -رضي الله عنه- أقبل على فرس من مسكنه حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة، فتيمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مغشى بثوب حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله وبكى، ثم قال: بأبي وأمي أنت، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. ولهما من حديث ابن عباس: أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس. الحديث، وفيه: لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها. لفظ البخاري: فيهما. انتهى .

قلت: وفي لفظ للبخاري عنها أن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه أبو بكر فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبدا، ثم خرج فقال: أيها الحالف على رسلك، فلما تكلم أبو بكر جلس عمر، فحمد الله أبو بكر فأثنى عليه وقال: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فالله حي لا يموت، قال: إنك ميت وإنهم ميتون وقال: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية، فنشج الناس يبكون.

وروى الحافظ أبو محمد حمزة بن الحارث بسنده إلى سالم بن عبيد الأشجعي قال: أقبل أبو بكر حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجى، فرفع البرد عن وجهه ووضع فاه على فيه استنشأ الريح، ثم سجاه والتفت إلينا فقال: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية، وقال: إنك ميت وإنهم ميتون يا أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد رب محمد فالله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأني لم أقل هذه الآية قط.

قال الطبري في الرياض وأخرج الترمذي معناه، وروى أحمد من حديث عائشة: سجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبا فجاءه عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنوا. الحديث، وفيه: جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأما حديث ابن عباس فسيأتي ذكره قريبا .

وروى ابن أبي شيبة من حديث ابن عمران أن أبا بكر مر بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: إنك ميت وإنهم ميتون وقال: وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ثم أتى المنبر. الحديث، قال أبو عبد الله القرطبي وفي هذا أدل دليل على شجاعة الصديق -رضي الله عنه- فإن الشجاعة حدها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظهرت عنده شجاعته وعلمه، قال الناس: لم يمت، واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية فرجع عمر عن مقالته التي قالها .

(وفي رواية أن أبا بكر) -رضي الله عنه- (لما بلغه الخبر دخل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي على النبي-صلى الله عليه وسلم- وعيناه تهملان) أي: تسيلان بالدموع (وغصصه ترتفع) جمع الغصة بالضم، وما هو يغص به الإنسان من طعام أو غيظ على التشبيه، ومعنى ترتفع أي: تكثر (كقطع الجرة) الجرة بكسر الجيم: ما تخرجه الإبل من كروشها فتحسوه (وهو مع ذلك جلد العقل والمقال) أي: ثابت العقل فيها (فأكب عليه فكشف عن وجهه، وقبل جبينه وخديه، ومسح وجهه، وجعل يكبر ويقول: بأبي وأمي ونفسي وأهلي، طبت حيا وميتا، انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء وهو النبوة، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء وخصصت حتى صرت مسلاة) أي: بحيث يتسلون بك (وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختيارا منك) إذ خيرت بينه وبين الخلد (لجدنا لحزنك بالنفوس ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا) أي: أفنينا (عليك ماء الشئون) أي: مدامع العيون (فأما ما لا نستطيع نفيه عنا) أي: لا نقدر على إزالته (فكمد وادكار محالفان) أي: ملازمان (لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد -صلى الله عليك- عند ربك ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم يقم أحد لما خلفت في الوحشة، اللهم أبلغ نبيك عنا واخلفه فينا) .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الضراء من حديث ابن عمر بسند ضعيف: جاء أبو بكر ورسول الله مسجى [ ص: 300 ] فكشف الثوب عن وجهه. الحديث، إلخ . انتهى .

قلت: لفظه: جاء أبو بكر وعيناه تهملان وزفراته تتردد وغصصه تتصاعد وترتفع، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وفيه: ما لم ينقطع لموت أحد من الناس، ولم يقل: وهو النبوة، وقال فعظمت عن القصة، والباقي سواء .



(تنبيه)

تقبيله النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قدمناه من حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري، وكذا عن غيره، فروى أحمد من طريق يزيد بن بابنوس عن عائشة: أنه أتاه من قبل رأسه فقبل وجهه، ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فجرر فاه وقبل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فجرر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه.

وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة فوضع فاه على جبين النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقبله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، طبت حيا وميتا.

وفي جزء ابن عرفة من حديث عائشة: أن أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته فوضع فاه بين عينه ووضع يديه على صدغيه فقال: وانبياه، واخليلاه، واصفياه.




الخدمات العلمية