الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
، كتاب المراقبة والمحاسبة والحمد لله .

كتاب المراقبة والمحاسبة .

وهو الكتاب الثامن من ربع المنجيات من كتب إحياء علوم الدين .

بسم الله الرحمن الرحيم .

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على كل جارحة بما اجترحت المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والأرض تحركت أو سكنت المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت ، المتطول بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت وتنظر فيما قدمت وأخرت فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشقيت في صعيد القيامة وهلكت ، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت فسبحان من عمت نعمته كافة العباد ، واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت وبيمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت وبتأييده ونصرته انقطعت مكايد الشيطان واندفعت ، وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت ، وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت فمنه العطاء والجزاء والإبعاد والإدناء والإسعاد والإشقاء والصلاة والسلام على محمد سيد الأنبياء وعلى آله سادة الأصفياء ، وعلى أصحابه قادة الأتقياء .

أما بعد : فقد قال الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين وقال تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وقال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد وقال تعالى : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى : ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقال تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه وقال تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة ، وصدق المراقبة ، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته ، وطالت في عرصات القيامة وقفاته ، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته ، فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال عز من قائل : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة ، ثم بالمراقبة ، ثم بالمحاسبة ، ثم بالمعاقبة ، ثم بالمجاهدة ، ثم بالمعاتبة .

فكانت لهم في المرابطة ست مقامات ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها ، وتفصيل الأعمال فيها ، وأصل ذلك المحاسبة ، ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة .

فلنذكر شرح هذه المقامات ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


(بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم)

الحمد لله المطلع على أسرار الغيوب، الرقيب على بواطن القلوب، الكاشف دهماء الكروب، الذي عظم حلمه فعفا وعدل في كل نفس ما قضى، وعلم ما يمضي وما مضى، أحمده على نعمه الكرام، وآلائه العظام، ومواهبه الجسام .

وأشهد أن لا إله إلا الله، مبتدع الخلائق ومنشؤهم بلا اقتدا، وتعليم ولا احتذا لمثال صانع حكيم, ولا إصابة خطأ، ولا حضرة ملا .

وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، وأمينه على وحي السما، أرسله بظهور الفلج، وانفتاح المنهج، فبلغ الرسالة صادعا بها، وحمل على المحجة دالا عليها، وأقام أعلام الاهتداء ومنار الضيا، وجعل أمراس الإسلام متينة، وعرى الإيمان به وثيقة، صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدجى، وأصحابه مفاتيح الهدى، وسلم تسليما كثيرا .

وبعد: فهذا شرح (كتاب المراقبة والمحاسبة ) وهو الثامن والثلاثون من كتب الإحياء لإمام الأنام مصباح الظلام حجة الإسلام أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أفاض الله على روحه الزكية فيوضات رحمته وبره المتوالي .

بنيت على قواعد إيوانه صرح الصفا، وكشفت عن مخدرات معانيه أكنة الجفا، بتحرير عبارات رائقة، وتحبير إشارات فائقة، يشتاق لها كل عارف بصير، وينتفع كل سالك منير، فالمراقبون يقتبسون من أنواره، والمحاسبون يلتمسون من أسراره، والمحبون يتنسمون من فوائح أزهاره، والعاملون يشمون أرياح نضاره، والزاهدون يشمون أريج نفحاته، والمتوكلون يترشفون بسلاف رشحاته، والعارفون يدنون حول حماه، والمحققون عاكفون على ما أشرعت فيه، والقلوب واجفة، والخواطر بالمصائب كاسفة، والأفكار بالأراجيف راجفة، والهموم من سائر الأطراف متكاثفة، والله أسأل خفي الألطاف والإعانة على ما أرجو، والنجاة مما أخاف؛ إنه سميع قريب، ولدعاء المناجين مجيب .

قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (بسم الله الرحمن الرحيم ) المستعان به على كل أمر عظيم (الحمد لله القائم على كل نفس ) أي: الرقيب عليه (بما كسبت ) من خير أو شر، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، ولا يفوت عنده شيء من جزائهم، أشار به إلى قوله تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وقيامه تعالى بذاته مطلقا، وقيام كل شيء به (الرقيب ) أي: العليم والحفيظ (على كل جارحة بما اجترحت ) وذلك بمراعاتها على اللزوم والدوام (المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست ) أي: وقعت وخطرت .

(الحسيب ) أي: الحاسب (على خواطر عباده إذا اختلجت ) أي: تحركت وانبعثت (الذي لا يعزب ) أي: لا يغيب (عن علمه ) المحيط الشامل لسائر معلوماته (مثقال ذرة في السموات والأرض تحركت أو سكنت ) أي: لا يشذ عن علمه شيء، قليلا كان أو كثيرا، متحركا كان أو ساكنا (المحاسب على النقير ) وأصله النكتة في ظهر النواة (والقطمير ) وهو شبه الخيط في بطن النواة (والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت ) ودق ظهورها في الأعين (المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المتطول بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت ) .

فالقبول والعفو إنما هما من تفضلاته، وإذا [ ص: 88 ] كان القبول حاصلا والعفو شاملا فلماذا الحساب؟ فقال: (وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت ) من أعمالها بين يديه تعالى (وتنظر فيما قدمت ) من عمل أو صدقة (وأخرت ) من سيئة أو تركة، ويجوز أن يراد بالتأخير التضييع، يشير بذلك إلى قوله تعالى: علمت نفس ما أحضرت وهو جواب إذا، والمذكور في سياقها ثنتا عشرة خصلة، ست منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا، وست بعده؛ لأن المراد زمان متسع شامل لها، ولمجازاة النفوس على أعمالها، ونفس في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة، وإلى قوله تعالى: علمت نفس ما قدمت وأخرت وهو أيضا جواب إذا .

أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق زيد بن أسلم، عن أبيه قال: "لما نزلت إذا الشمس كورت قال عمر لما بلغ علمت نفس ما أحضرت قال: لهذا أجرى" الحديث .

وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله: علمت نفس ما قدمت وأخرت قال: من سنة صالحة يعمل بها بعده، فإن له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، أو سنة سيئة يعمل بها بعده فإن عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينتقص من أوزارهم.

وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس قال: "ما قدمت من عمل خير أو شر، وما أخرت من سيئة يعمل بها من بعده".

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله: علمت نفس ما قدمت وأخرت قال: ما أدت إلى الله مما أمرها الله به، وما ضيعت.

وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة، قال: ما قدمت من خير وما أخرت من حق الله عليها لم تعمل به.

وعن سعيد بن جبير قال: ما قدمت من خير، وما أخرت: ما حدثت به نفسه ولم يعمل به.

وعن مجاهد: ما قدمت من خير، وما أخرت: ما أمرت أن تعمل فتركت.

وعن عطاء قال: ما قدمت بين يديها، وما أخرت وراءها من سيئة يعمل بها من بعده.

(فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشقيت في صعيد القيامة ) وهي الأرض المستوية التي يحشر الناس عليها (وهلكت، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضل الله بقبول بضاعتها المزجاة ) وهي الخسيسة التي يدفعها كل معروض عليه فلا تنفق (لخابت وخسرت ) وخسارتها عدم رواجها (فسبحان من عمت نعمته كافة العباد فشملت ) أي: جميعهم عامهم وخاصهم، وكافة مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة لا يثنى ولا يجمع (واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت ) ، وهي الرحمة العامة التي تتناول المستحق وغير المستحق والضرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنها (فبنفحات فضله ) جمع نفحة وهي العطية (اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت ) فقبلته واستقر فيها (وبيمن توفيقه ) أي: هدايته لما يوافقه (تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت ) فاستحلتها واستخفت (وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت ) أي: انزاحت فاهتدت بمعرفته الخاصة واطمأنت (وبتأييده ونصرته انقطعت ) عنه (مكايد الشيطان ) ومصايده وفخوفه التي على قلوب المؤمنين (واندفعت، وبلطف عنايته ) السابقة بعباده (تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت، وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت فمنه ) تعالى وحده (العطاء والجزاء ) أي: فهو المعطي والمجازي (والإبعاد والإدناء ) أي: وهو المبعد والمدني (والإسعاد والإشقاء ) أي: وهو المسعد والمشقي، لا إله إلا الله جل جلاله .

(والصلاة على ) سيدنا (محمد سيد الأنبياء ) أي: رئيسهم ومقدمهم (وعلى آله سادة الأصفياء، وعلى أصحابه قادة الأتقياء ) وسلم عليه تسليما كثيرا .

(أما بعد: فقد قال الله تعالى ) في كتابه العزيز: ( ونضع الموازين القسط ) أي: العدل، توزن بها صحائف الأعمال، وقيل: وضع الميزان تمثيل لإرصاد الحساب السوي، والجزاء على حسب الأعمال بالعدل وإفراد القسط؛ لأنه مصدر وصف به للمبالغة (ليوم القيامة ) أي: لجزاء يوم القيامة، أو لأجله، أو فيه، كقولك: جئت لخمس خلون من الشهر .

( فلا تظلم نفس شيئا ) من حقه ( وإن كان ) العمل ( مثقال حبة من خردل أتينا بها ) أي: أحضرناها، والضمير للمثقال، وتأنيثه لإضافته إلى الحبة ( وكفى بنا حاسبين ) أي: لا مزيد على علمنا وعدلنا .

أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع العلم من طريق حماد بن زيد، عن أبي حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم في قوله: ونضع الموازين القسط ليوم القيامة قال: يجاء بعمل الرجل فيوضع في كفة ميزانه فيرجح، فيقال [ ص: 89 ] له: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا، فيقال: هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس، أو نحو هذا .

وحدث به عبد الله بن أحمد في كتاب العلل، عن أبيه، حدثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس، حدثنا الحجاج، عن حماد، قال: "إن العالم ليغشاه يوم القيامة مثل الغمام، فيوضع في ميزانه، فيقول: ما هذا؟ فيقال: العلم الذي علمته الناس" .

وقال أيضا: حدثني أبي، حدثنا عبد القدوس، عن رجل قد سماه، يعني أبا حنيفة، عن حماد، مثله .

وخرجه ابن مردويه في كتاب فضل العلم من طريق مسلم بن إبراهيم، حدثنا حماد بن زيد، عن أبي حنيفة، عن حماد قال الحافظ ابن ناصر الدين في منهاج السلامة: ونصب ميزان الحق يوم القيامة بين الخلق لفوائد عظيمة، وحكم بهية، اقتضتها الحكمة الإلهية مع علم الله العليم الخبير بمقادير الأعمال الصغير والكبير، لا يغيب عن نظره غائب، ولا يفوته هارب، ولا يؤده حفظ ما خلق، وهو السميع العليم .

وإنما الحكمة في وزن أعمال العباد أن ذلك لامتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا، وهو أحد الأقوال في معنى ذلك، وقيل: لإظهار السعادة والشقاوة يوم القيامة، وقيل: ليعرف العباد ما لهم من خير وشر، وقيل: لإقامة الحجج عليهم، وقيل: للإعلام بأن الله -عز وجل- عادل لا يظلم من خلقه أحدا، يربي الحسنات لصاحبها ويضاعفها .

(وقال تعالى: ووضع الكتاب ) أي: صحائف الأعمال في الإيمان والشمائل، أو في الميزان، وقيل: هو كناية عن وضع الحساب ( فترى المجرمين مشفقين ) خائفين ( مما فيه ) من الذنوب ( ويقولون يا ويلتنا ) ينادون هلكتهم التي أهلكوها من بين الهلكات ( مال هذا الكتاب ) تعجيبا من شأنه ( لا يغادر ) لا يترك هنة ( صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) عددها وأحاط بها ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) مكتوبا في الصحف ( ولا يظلم ربك أحدا ) فيكتب عليه ما لم يفعل، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله .

(وقال تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا ) في صعيد أفيح ( فينبئهم ) أي: يخبرهم جميعا ( بما عملوا ) من خير وشر ( أحصاه الله ) عدده وأحاط به ( ونسوه والله على كل شيء شهيد ) أي: شاهد لا يغيب .

(وقال تعالى: يومئذ يصدر الناس ) من قبورهم إلى الموقف ( أشتاتا ) متفرقين بحسب مراتبهم ( ليروا أعمالهم ) أي: جزاء أعمالهم ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) والذرة النملة الصغيرة أو الهباء .

(وقال تعالى: ثم توفى كل نفس ما كسبت ) أي: تعطى على سبيل الوفاء جميع ما كسبت من خير وشر ( وهم لا يظلمون ) وهو كقوله تعالى: ولا يظلم ربك أحدا .

(وقال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ) بين يديه (و ) تجد أيضا ( وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) أي: غاية، يقال: بلغ أمده أي غايته ( ويحذركم الله نفسه وقال تعالى: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على سعة علمه وإحاطته بسائر أفعال العباد .

(فعرف أرباب البصائر ) الصادقة (من جملة العبادات أن الله تعالى لهم بالمرصاد ) كما قال تعالى: إن ربك لبالمرصاد (وأنهم سيناقشون في الحساب ) أي: يدقق عليهم فيه (ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات ) في الحركات والسكنات (وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس ) الهابطة والصاعدة (والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال ) في القبر (جوابه، وحسن منقلبه ومآبه ) أي: مرجعه (ومن لم يحاسب نفسه ) في دنياه (دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته ) أي: جرته (إلى الخزي ) أي: الفضيحة (والمقت ) أي: الغضب (سيئاته، فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله ) والمصابرة عليها .

(وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال: يا أيها الذين آمنوا اصبروا ) على مشاق الطاعات وما يصيبكم من الشدائد ( وصابروا ) أي: غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب، وأعدى عدوكم على مخالفة الهوى، وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدته ( ورابطوا ) أنفسكم على الطاعة واتقوا الله لعلكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المترتبة التي هي الصبر على مقتضى الطاعات، ومصابرة النفس في رفض العادات، ومرابطة السر على جناب الحق سبحانه [ ص: 90 ] لترصد الواردات المعبر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة .

(فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة، ثم بالمراقبة، ثم بالمحاسبة، ثم بالمعاقبة، ثم بالمجاهدة، ثم بالمعاتبة، فكانت لهم في المرابطة ست مقامات ولا بد من شرحها ) مقاما (وبيان حقيقتها وفضيلتها، وتفصيل الأعمال فيها، وأصل ذلك المحاسبة، ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة، ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة، فلنذكر شرح هذه المقامات، وبالله التوفيق ) .




الخدمات العلمية