قد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى وأثنى على المتفكرين فقال تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله ، فإنكم لن تقدروا قدره وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون فقال : ما لكم لا تتكلمون ، فقالوا : نتفكر في خلق الله عز وجل قال : فكذلك فافعلوا ، تفكروا في خلقه ولا تتفكروا فيه ، فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها بياضها وبياضها نورها مسيرة الشمس أربعين يوما بها خلق من خلق الله عز وجل لم يعصوا الله طرفة عين ، قالوا : يا رسول الله فأين الشيطان منهم ؟ قال : ما يدرون خلق الشيطان أم لا ، قالوا : من ولد آدم ؟ قال : لا يدرون خلق آدم أم لا وعن عطاء قال انطلقت يوما أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : زر غبا تزدد حبا ، قال ابن عمير : فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا أتاني ، في ليلتي حتى مس جلده جلدي ، ثم قال ذريني : أتعبد لربي عز وجل ، فقام إلى القربة فتوضأ منها ، ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي ، وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ، ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها فقيل للأوزاعي ما غاية التفكير فيهن ، قال يقرؤهن ويعقلهن .
وعن محمد بن واسع إن رجلا من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر .
وعن الحسن قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة .
وعن الفضيل قال : الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك .
وقيل لإبراهيم إنك تطيل الفكرة ، فقال : الفكرة مخ العقل وكان سفيان بن عيينة كثيرا ما يتمثل بقول القائل
:
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وعن طاوس قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك ؟ فقال : نعم ، من كان منطقه ذكرا وصمته فكرا ونظره عبرة فإنه مثلي .وقال الحسن من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو وفي قوله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري .
وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطوا أعينكم حظها من العبادة ، فقالوا : يا رسول الله ، وما حظها من العبادة ؟ قال : النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه وعن امرأة كانت تسكن البادية قريبا من مكة أنها قالت : لو تطالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما قد ادخر لها في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم في الدنيا عين .
وكان لقمان يطيل الجلوس وحده ، فكان يمر به مولاه فيقول : يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك ، فلو جلست مع الناس كان آنس لك ، فيقول لقمان إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرؤ قط إلا عمل .
وقال عمر بن عبد العزيز الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة .
وقال عبد الله بن المبارك يوما لسهل بن علي ورآه ساكتا متفكرا : أين بلغت ؟ قال : الصراط .
وقال بشر لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل وعن ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب .
وبينا أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل ، له : ما يبكيك ؟ قال : تفكرت في ذهاب عمرى وقلة عملي واقتراب أجلي .
وقال أبو سليمان عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر وقال أبو سليمان الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية والفكر في الآخرة ، يورث الحكمة ويحيي القلوب وقال حاتم من العبرة يزيد العلم ، ومن الذكر يزيد يزيد الحب ، ومن التفكر يزيد الخوف .
وقال ابن عباس التفكر في الخير يدعو إلى العمل به ، والندم على الشر يدعو إلى تركه .
ويروى أن الله تعالى قال في بعض كتبه إني لست أقبل كلام كل حكيم ، ولكن انظر إلى همه وهواه ، فإذا كان همه وهواه لي جعلت صمته تفكرا وكلامه حمدا وإن لم يتكلم .
وقال الحسن إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة .
وقال إسحاق بن خلف كان داود الطائي رحمة الله تعالى على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له قال : فوثب صاحب الدار من فراشه عريانا وبيده سيف ، وظن أنه لص ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال : من ذا الذي طرحك من السطح ؟ قال : ما شعرت بذلك .
وقال الجنيد أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد والتنسم بنسيم المعرفة والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد ، والنظر بحسن الظن بالله عز وجل ، ثم قال : يا لها من مجالس ما أجلها ، ومن شراب ما ألذه طوبى لمن رزقه .
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر .
وقال أيضا : صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور ، والعزم في الرأي سلامة من التفريط والندم ، والروية والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة ، ومشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم .
وقال أيضا : الفضائل أربع : إحداها الحكمة وقوامها الفكرة .
والثانية العفة وقوامها في الشهوة .
والثالثة القوة وقوامها في الغضب والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس .
فهذه أقاويل العلماء في الفكرة وما شرع أحد منهم في ذكر حقيقتها وبيان مجاريها .


