الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
بيان الطريق في تحقيق ذكر الموت .

اعلم أن الموت هائل وخطره عظيم وغفلة ، الناس عنه لقلة فكرهم فيه و ذكرهم له ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا فلا ينجع ذكر الموت في قلبه .

فالطريق فيه أن يفرغ العبد قلبه عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه كالذي يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة أو يركب البحر ، فإنه لا يتفكر إلا فيه فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه ، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا ، وينكسر قلبه .

وأنجع طريق فيه أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه الذين مضوا قبله ، فيتذكر موتهم ، ومصارعهم تحت التراب ، ويتذكر صورهم في مناصبهم ، وأحوالهم ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم .

وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم ، وكيف أرملوا نساءهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم ، وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم ، وانقطعت آثارهم ، فمهما تذكر رجلا رجلا ، وفصل في قلبه حاله ، وكيفية موته ، وتوهم صورته ، وتذكر نشاطه وتردده وتأمله ، للعيش والبقاء ، ونسيانه للموت ، وانخداعه بمواتاة الأسباب وركونه إلى القوة والشباب ، وميله إلى الضحك واللهو ، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع ، والهلاك السريع .

وأنه كيف كان يتردد ، والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله .

وأنه كيف ، كان ينطق وقد أكل الدود لسانه .

وكيف كان يضحك وقد ، أكل التراب أسنانه .

وكيف ، كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر ، وهو غافل عما يراد به ، حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك وقرع سمعه النداء إما بالجنة أو بالنار فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم ، وغفلته كغفلتهم ، وستكون عاقبته كعاقبتهم .

قال أبو الدرداء رضي الله عنه إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه السعيد من وعظ بغيره .

وقال عمر بن عبد العزيز ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا أو رائحا إلى الله عز وجل تضعونه في صدع من الأرض قد توسد التراب ، وخلف الأحباب ، وقطع الأسباب .

فملازمة هذه الأفكار وأمثالها ، مع دخول المقابر ، ومشاهدة المرضى هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب ، حتى يغلب عليه ، بحيث يصير نصب عينيه ، فعند ذلك يوشك أن يستعد له ، ويتجافى عن دار الغرور وإلا فالذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان قليل الجدوى في التحذير والتنبيه ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا ينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد له من مفارقته . نظر ابن مطيع ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها ، ثم بكى فقال : والله لولا الموت لكنت بك مسرورا ، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا ، ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته .

التالي السابق


(بيان الطريق في تحقيق ذكر الموت في القلب ) *

(اعلم ) بصرك الله تعالى (أن الموت هائل ) فظيع (وخطره عظيم، و ) إنما (غفلة الناس عنه لقلة فكرهم فيه ) فلا يخطر لهم ببال (و ) لقلة (ذكرهم له ) على ألسنتهم (ومن يذكره ) قليلا أو كثيرا [ ص: 235 ] (ليس يذكره بقلب فارغ ) عن الشواغل (بل بقلب مشغول بشهوة الدنيا ) معلق بها (فلا ينجع ذكر الموت في قلبه ) لأجل ذلك (فالطريق فيه أن يفرغ العبد قلبه ) عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي هو بين يديه، كالذي (يريد أن يسافر إلى مفازة مخطرة أو ) يريد أن (يركب البحر، فإنه لا يتفكر إلا فيه ) إن قام أو قعد (فإذا باشر ذكر الموت قلبه فيوشك أن يؤثر فيه، وعند ذلك ) أي إذا تحقق التأثير فمن علاماته أنه (يقل فرحه وسروره بالدنيا، وينكسر قلبه ) منها، فلا يكون له في باطنه ميل إليها أصلا (وأوقع طريق فيه ) أي أكثره وقعا في القلب (أن يكثر ذكر أشكاله وأقرانه ) ولداته (الذين مضوا قبله، فيتذكر موتهم، ومصارعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم ) الجميلة (في مناصبهم، وأحوالهم ) التي كانوا يتقلبون فيها (ويتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أرملوا نساءهم ) أي تركوهن أرامل بلا أزواج (وأيتموا أولادهم ) أي تركوهم يتامى (وضيعوا أموالهم، وخلت منهم مساجدهم ) ومدارسهم (ومجالسهم، وانقطعت آثارهم، فمهما تذكر رجلا رجلا، وفصل في قلبه حاله، وكيفية موته، وتوهم صورته، وتذكر نشاطه وتردده، وأمله للعيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمؤاتاة الأسباب ) أي موافقتها (وركونه إلى القوة والثبات، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع، والهلاك السريع، وأنه كيف يتردد، والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله، وكيف كان ينطق و ) الآن (قد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك، و ) الآن (قد أكل التراب أسنانه، وأنه كيف كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين في وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر، وهو غافل عما يراد به، حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه فانكشف له صورة الملك ) القابض للروح وهو عزرائيل عليه السلام (وقرع سمعه النداء إما بالجنة أو بالنار ) يشير إلى ما أخرجه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمر: "وإذا توفى الله المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء فيقولون: اخرجي إلى روح الله، فتخرج كأطيب ريح المسك، وأما الكافر فتأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون: اخرجي إلى غضب الله، فتخرج كأنتن جيفة". وقد رواه أبو بكر المروزي في الجنائز من حديث أبي هريرة نحوه وسيأتي .

(فعند ذلك ينظر في نفسه أنه مثلهم، وغفلته كغفلتهم، وستكون عاقبته كعاقبتهم. قال أبو الدرداء ) رضي الله عنه: (إذا ذكرت الموتى فعد نفسك كأحدهم ) . رواه أبو نعيم في الحلية من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة قال: قال أبو الدرداء: "اعبدوا الله كأنكم ترونه، وعدوا أنفسكم من الموتى، واعلموا أن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم". (وقال ابن مسعود ) رضي الله عنه: (السعيد من وعظ بغيره ) . رواه مسلم من طريق عمرو بن الحارث عن أبي الزبير المكي عن عامر بن وائلة عنه بزيادة: "والشقي من شقي في بطن أمه". وهو عند العسكري في الأمثال من طريق عون عن أبي وائل، وعند القضاعي من طريق إدريس بن يزيد الأودي عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص كلاهما عن ابن مسعود مرفوعا، ورواه العسكري أيضا من طريق عبد الله بن مصعب بن خالد بن زيد عن أبيه عن جده زيد بن خالد رفعه بلفظ المصنف. ورواه القضاعي من هذا الوجه بتمامه، ويروى من حديث عبد الله بن مصعب عن أبيه أيضا فقال عن عقبة بن عامر بدل زيد وهما ضعيفان، ولذا قال ابن الجوزي: لا يثبت كذلك مرفوعا .

(وقال عمر بن عبد العزيز ) رحمه الله تعالى في خطبته: (ألا ترون أنكم تجهزون كل يوم غاديا أو رائحا إلى الله عز وجل [ ص: 236 ] تضعونه في صدع من الأرض ) أي شق منها (قد توسد التراب، وخلف الأحباب، وقطع الأسباب ) . هكذا أورده هنا مختصرا، وسيأتي بتمامه في آخر الباب الذي يليه، أخرجه أبو نعيم في الحلية مطولا كما سنذكره .

(فملازمة هذه الأفكار وأمثالها، مع دخول المقابر، ومشاهدة المرضى ) وأهل البلاء (هو الذي يجدد ذكر الموت في القلب، حتى يغلب عليه، بحيث يصير نصب عينيه، فعند ذلك يوشك أن يستعد له، ويتجافى عن دار الغرور وإلا فالذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان ) أي طرفه (قليل الجدوى ) أي الفائدة (في التحذير والتنبيه ) . وسيأتي ذكر الخطب التي فيها مجال أفكار المعتبرين من كلام أمير المؤمنين علي- رضي الله عنه- ومن كلام عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- في آخر الباب الذي يليه. (ومهما طاب قلبه بشيء من الدنيا ينبغي أن يتذكر في الحال أن لا بد له من مفارقته. نظر ابن مطيع ) هو عبد الله بن مطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عريج بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي، العدوي، المدني، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة، كان من رجال قريش جلدا وشجاعة، كان على قريش يوم الحرة، وقتل مع ابن الزبير بمكة، وكان قد استعمله على الكوفة، روى له مسلم حديثا واحدا (ذات يوم إلى داره فأعجبه حسنها، ثم بكى فقال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورا، ولولا ما تصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى بكاء شديدا حتى ارتفع صوته ) . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الموت والله الموفق .




الخدمات العلمية