الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
قالت عائشة رضي الله عنها وما قلت ذاك : ولا صرفته عن أبي بكر إلا رغبة به عن الدنيا ، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة إلا من سلم الله ، وخشيت أيضا أن لا يكون الناس يحبون رجلا صلى في مقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي أبدا إلا أن يشاء الله فيحسدونه ويبغون عليه ويتشاءمون به فإذن ، الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه ، وعصمه الله من كل ما تخوفت عليه من أمر الدنيا والدين وقالت عائشة رضي الله عنها فلما .

كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنساء ، فبينا نحن على ذلك لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرجن عني ، هذا الملك يستأذن علي فخرج من في البيت غيري ورأسه في حجري فجلس وتنحيت في جانب البيت فناجى الملك طويلا ، ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري ، وقال للنسوة : ادخلن ، فقلت ما هذا بحس جبريل عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل يا عائشة هذا ملك الموت جاءني فقال : إن الله عز وجل أرسلني وأمرني أن لا أدخل عليك إلا بإذن فإن لم تأذن لي أرجع وإن أذنت لي دخلت، وأمرني أن لا أقبضك حتى تأمرني فماذا أمرك فقلت اكفف عني حتى يأتيني جبريل عليه السلام، فهذه ساعة جبريل فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب ولا رأي ، فوجمنا وكأنما ضربنا بصاخة ما نحير إليه شيئا وما يتكلم أحد من أهل البيت إعظاما لذلك الأمر وهيبة ملأت أجوافنا ، قالت : وجاء جبريل في ساعته فسلم فعرفت حسه ، وخرج أهل البيت فدخل فقال : إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول : كيف تجدك ؟ وهو أعلم بالذي تجد منك ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك فقال : أجدني وجعا فقال : أبشر ، فإن الله تعالى أراد أن يبلغك ما أعد لك ، فقال : يا جبريل ، إن ملك الموت استأذن علي ، وأخبره الخبر ، فقال جبريل : يا محمد إن ، ربك إليك مشتاق ، ألم يعلمك الذي يريد بك ؟ لا والله ما استأذن ملك الموت على أحد قط ، ولا يستأذن عليه أبدا ، إلا أن ربك متم شرفك وهو إليك مشتاق ، قال : فلا تبرح إذن حتى يجيء ، وأذن للنساء فقال : يا فاطمة ، ادني فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تدمع وما تطيق الكلام ثم قال : أدني مني رأسك ، فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام فكان ، الذي رأينا منها عجبا فسألناها بعد ذلك فقالت : أخبرني وقال : إني ميت اليوم فبكيت ثم قال : إني دعوت الله أن يلحقك بي في أول أهلي ، وأن يجعلك معي فضحكت وأدنت ابنيها منه فشمهما قالت وجاء ملك الموت ، فسلم واستأذن فأذن له ، فقال الملك .

: ما تأمرنا يا محمد ، قال ألحقني : بربي الآن ، فقال : بلى من يومك هذا ، أما إن ربك إليك مشتاق ولم يتردد عن أحد تردده عنك ، ولم ينهني عن الدخول على أحد إلا بإذن غيرك ، ولكن ساعتك أمامك ، وخرج ، قالت وجاء : جبريل ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبدا ، طوي الوحي وطويت الدنيا ، وما كان لي في الأرض حاجة غيرك وما لي ، فيها حاجة إلا حضورك ، ثم لزوم موقفي لا ، والذي بعث محمدا بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما يسمع من حديثه ووجدنا وإشفاقنا . قالت : فقمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أضع رأسه بين ثديي وأمسكت بصدره ، وجعل يغمى عليه حتى يغلب وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قط ، فجعلت أسلت ذلك العرق وما وجدت رائحة شيء أطيب منه فكنت أقول له إذا أفاق بأبي أنت وأمي ونفسي وأهلي ما تلقى جبهتك من الرشح ، فقال يا عائشة : إن نفس المؤمن تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقيه كنفس الحمار فعند ذلك ارتعنا وبعثنا إلى أهلنا فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده أخي بعثه إلي أبي فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء أحد وإنما صدهم الله عنه ; لأنه ولاه جبريل وميكائيل وجعل إذا أغمي عليه قال : بل الرفيق الأعلى ، كأن الخيرة تعاد عليه ، فإذا أطاق الكلام قال : الصلاة الصلاة إنكم لا تزالون متماسكين ما صليتم جميعا الصلاة الصلاة ، كان يوصي بها حتى مات وهو يقول : الصلاة الصلاة .

التالي السابق


(قالت عائشة) رضي الله عنها (وما قلت: ذلك ولا صرفته عن أبي بكر إلا رغبة عن الدنيا، ولما في الولاية من المخاطرة والهلكة إلا ما سلم الله، وخشيت أيضا أن لا يكون الناس يحبون رجلا صلى في مقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حي إلا أن يشاء الله يحسدونه ويبغون عليه ويتشاءمون به، فإذا الأمر أمر الله والقضاء قضاؤه، وعصمه الله من كل ما تخوفت عليه من أمر الدنيا والدين) رواه البخاري بلفظ: فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أنه يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا، ولا كنت أرى أنه لن يقوم واحد مقامه إلا تشاءم الناس به.

(وقالت عائشة) رضي الله عنها (فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) وهو يوم الإثنين (رأوا منه خفة في أول النهار فتفرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستبشرين وأخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنساء، فبينا نحن على ذلك لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والفرح قبل ذلك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) للنساء (اخرجن عني، هذا الملك يستأذن علي) أي: يطلب الإذن بالدخول علي (فخرج من في البيت) من النسوة (غيري ورأسه في حجري فجلس) مستعدا للقاء الملك (وتنحيت في جانب البيت) أي: صرت في ناحية منه (فناجى الملك طويلا، ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري، وقال للنسوة: ادخلن، فقلت) يا رسول الله (ما هذا بحس جبريل - عليه السلام- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) أجل عائشة (هذا ملك الموت جاءني فقال: إن الله -عز وجل- أرسلني) إليك (وأمرني أن لا أدخل عليك) إلا بإذن، فإن لم تأذن لي أرجع، وإن أذنت لي دخلت وأمرني أن لا أقبضك حتى تأمرني، فماذا أمرك؟ فقلت: اكفف حتى يأتيني جبريل -عليه السلام- فهذه ساعة جبريل، قالت عائشة رضي الله عنها (فاستقبلنا بأمر لم يكن له عندنا جواب ولا رأي، فوجمنا) أي: اندهشنا (كأنما ضربنا بصاخة) بتشديد الخاء، وهي المصيبة الشديدة (ما نحير إليه شيئا) أي: ما نرجع (وما يتكلم أحد من أهل البيت إعظاما لذلك الأمر وهيبة ملأت أجوافنا، قالت: وجاء جبريل) -عليه السلام- (في ساعته فسلم فعرفت حسه، وخرج أهل البيت فدخل فقال: إن الله -عز وجل- يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالذي تجد منك ولكن أراد أن يزيدك كرامة وشرفا وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق وأن تكون سنة في أمتك) أي: إذا دخلوا على المريض فيقولون كذلك (فقال: أجدني وجعا، قال: أبشر، فإن الله تعالى أراد أن يبلغك ما أعد لك، فقال: يا جبريل، إن ملك الموت استأذن علي، وأخبره الخبر، فقال جبريل: يا محمد، [ ص: 293 ] إن ربك إليك مشتاق، ألم أعلمك الذي يريد بك؟ لا والله ما استأذن ملك الموت على أحد قط، ولا يستأذن عليه أبدا، إلا أن ربك يتم شرفك وهو إليك مشتاق، قال: فلا تبرح إذا حتى يجيء، وأذن للنساء) فدخلن وفيهن ابنته فاطمة، رضي الله عنها (فقال: يا فاطمة، ادني) أي: اقربي مني (فأكبت عليه فناجاها) أي: سارها بشيء (فرفعت رأسها وعيناها تذرفان) أي: تسيلان دموعا (وما تطيق الكلام) من شدة الحزن (ثم قال: أدني مني رأسك، فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام، وكان الذي رأينا منها عجبا) من البكاء والضحك في ساعة واحدة (فسألناها بعد ذلك) أي: بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم- (فقالت: أخبرني) أولا (وقال: إني ميت اليوم فبكيت) حزنا على فراقه (ثم قال ثانيا: إني دعوت الله) تعالى (أن يلحقك بي في أول أهلي، وأن يجعلك معي، واستأذن فأذن له، فقال الملك: ما تأمرنا يا محمد، قال: ألحقني بربي الآن، فقال: بلى من يومك هذا، أما إن ربك إليك مشتاق ولم يتردد عن أحد تردده عنك، ولم ينه عن الدخول على أحد إلا بإذن غيرك، ولكن ساعتك أمامك، وخرج، قالت: وخرج جبريل، فقال: السلام عليك يا رسول الله، هذا آخر ما أنزل فيه الأرض أبدا، طوي الوحي وطويت الدنيا، وما كانت بي في الأرض حاجة غيرك، وما لي فيها حاجة إلا حضورك، ثم لزوم موقفي، ولا والذي بعث محمدا بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك من كلمة) أي: يعيدها (ولا يبعث إلى أحد من رجاله لعظم ما نسمع من حديثه ووجدنا وإشفاقنا .

قالت: فقمت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أضع رأسه بين ثديي وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه) أي: يعتريه الغشيان (حتى يغلب) لشدة ما يحصل له من فتور الأعضاء من تمام الحركة، وفيه جواز الإغماء على الأنبياء -عليهم السلام- قال ابن حجر في شرح الشمائل: لكن قيده الشيخ أبو حامد من أئمتنا بغير الطويل، وجزم به البلقيني، قال السبكي: ليس كإغماء غيرهم; لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم; لأنها إذا عصمت من النوم الأخف فالإغماء أولى .

(وجبهته ترشح رشحا ما رأيته من إنسان قط، فجعلت أسلت ذلك العرق) أي: أزيله وأمسحه (وما وجدت رائحة شيء أطيب منه فكنت أقول له إذا أفاق) من غشيته (بأبي) أنت (وأمي ونفسي وأهلي ما تلقي جبهتك من الرشح، فقال يا عائشة: إن نفس المؤمن) أي: روحه (تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقه كنفس الحمار) أي: فالرشح من علامات الخير، وقد تقدم، (فعند ذلك ارتعنا) أي: خفنا (وبعثنا إلى أهلنا فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده أخي) وهو عبد الرحمن بن أبي بكر (بعثه إلي أبي) لينظر الحال (فمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يجيء أحد) من أهلي (وإنما صدهم الله عنه; لأنه ولاه جبريل وميكائيل) عليهما السلام (وجعل) -صلى الله عليه وسلم- (إذا أغمي عليه قال: بل الرفيق الأعلى، كأن الخيرة تعاد عليه، فإذا أطاق الكلام قال: الصلاة الصلاة) أي: الزموها (إنكم لا تزالون متماسكين ما صليتم جميعا) أي: مع الجماعة (الصلاة الصلاة، كان يوصي بها حتى مات وهو يقول: الصلاة الصلاة) .

قال العراقي: رواه الطبراني في الكبير من حديث جابر وابن عباس مع اختلاف في حديث طويل فيه، فلما كان يوم الإثنين اشتد الأمر وأوحى الله إلى ملك الموت أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد -صلى الله عليه وسلم- في أحسن صورة وارفق به [ ص: 294 ] في قبض روحه. وفيه دخول الملك واستئذانه وقبضه، فقال: يا ملك الموت، أين خلفت حبيبي جبريل؟ قال: خلفته في سماء الدنيا والملائكة يعزونه، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل فقعد عند رأسه وذكر بشارة جبريل له مما أعد الله له، وفيه: ادن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت به. الحديث، وفيه: قد دنا ملك الموت يعالج قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر كربه لذلك، إلى أن قال: فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وهو حديث طويل في ورقتين كبار، وهو منكر، فيه عبد المنعم بن إدريس بن سنان، عن أبيه، عن وهب بن منبه، قال أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه، وأبو إدريس أيضا متروك، قاله الدارقطني.

ورواه الطبراني أيضا من حديث الحسين بن علي: أن جبريل جاءه أولا فقال له عن ربه: كيف تجدك، ثم جاءه جبريل اليوم الثالث ومعه ملك الموت وملك الهواء إسماعيل، وأن جبريل دخل أولا فسأله، ثم استأذن ملك الموت، وقوله: امض لما أمرت به، وهو منكر أيضا فيه عبد الله بن ميمون القداح، قال البخاري: ذاهب الحديث، ورواه أيضا من حديث ابن عباس في مجيء ملك الموت أولا واستئذانه وقوله: إن ربك يقرئك السلام، فقال: أين جبريل؟ فقال: هو قريب مني الآن، فخرج ملك الموت حتى نزل عليه جبريل. الحديث، وفيه المختار بن نافع، منكر الحديث، قاله البخاري وابن حبان. اهـ .

قلت: وقد رواه أبو نعيم في الحلية عن الطبراني بطوله فقال: حدثنا سليمان بن أحمد وهو الطبراني، حدثنا محمد بن أحمد، حدثنا عبد المنعم بن إدريس بن سنانة، عن أبيه، عن وهب، عن جابر بن عبد الله وابن عباس، قالا: لما نزلت "إذا جاء نصر الله والفتح" إلى آخر السورة، قال محمد -صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل نفسي قد نعيت، قال جبريل -عليه السلام-: الآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى بالناس، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب وبكت منها العيون، ثم قال: أيها الناس، أي نبي كنت لكم؟ فقالوا: جزاك الله من نبي خيرا، فلقد كنت لنا كالأب الرحيم وكالأخ الناصح المشفق، أديت رسالات الله -عز وجل- وأبلغتنا وحيه، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته، فقال لهم: معاشر المسلمين، أنا أنشدكم بالله وبحقي عليكم، من كانت له قبلي مظلمة، فليقم فليقتص مني، فذكر حديثا طويلا فيه قيام عكاشة لطلب القصاص، نحو ورقة كاملة، وفيه: فمرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يومه فكان مريضا ثمانية عشر يوما يعوده الناس، وكان -صلى الله عليه وسلم- ولد يوم الإثنين وبعث يوم الإثنين وقبض يوم الإثنين، فلما كان في يوم الأحد ثقل في مرضه فأذن بلال بالأذان، ثم وقف بالباب فنادى، السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، الصلاة يرحمك الله، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت بلال، فقالت فاطمة: يا بلال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم مشغول بنفسه، فدخل بلال المسجد فلما أسفر الصبح، قال: والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجع وقام بالباب ونادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، الصلاة يرحمك الله فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت بلال فقال: ادخل يا بلال، إن رسول الله اليوم مشغول بنفسه، مر أبا بكر يصلي بالناس فخرج ويده على أم رأسه وهو يقول: واغوثاه بالله، وانقطاع رجائي وانقصام ظهري، ليتني لم تلدني أمي إذ ولدتني لم أشهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا اليوم، ثم قال: يا أبا بكر، ألا إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرك أن تصلي بالناس، فتقدم أبو بكر الناس، وكان رجلا رقيقا، فلما نظر إلى خلوة المكان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يتمالك أن خر مغشيا عليه، وضج المسلمون بالبكاء، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضجيج الناس، فقال: ما هذه الضجة؟ فقالوا: ضجة المسلمين لفقدك يا رسول الله، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب وابن عباس واتكأ عليهما، فخرج إلى المسجد، فصلى بالناس ركعتين خفيفتين، ثم أقبل بوجهه المليح عليهم، فقال: معشر المسلمين، استودعتكم الله، أنتم في رجاء الله وأمانته، والله خليفتي عليكم، معاشر المسلمين عليكم باتقاء الله وحفظ طاعته من بعدي، فإني مفارق الدنيا هذا أول يوم من الآخرة، وآخر يوم في الدنيا، فلما كان يوم الإثنين اشتد به الأمر، وأوحى الله إلى ملك الموت -عليه السلام- أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد -صلى الله عليه وسلم- في أحسن صورة وارفق [ ص: 295 ] به في قبض روحه، فهبط ملك الموت، فوقف بالباب شبه أعرابي، ثم قال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، أدخل؟ فقالت عائشة لفاطمة -رضي الله عنهما-: أجيبي الرجل، فقالت فاطمة: أجرك الله في ممشاك يا عبد الله، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اليوم مشغول بنفسه، ثم دعا الثانية، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، أدخل؟ فقالت عائشة لفاطمة -رضي الله عنهما-: أجيبي الرجل، فقالت فاطمة: أجرك الله في ممشاك يا عبد الله، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشغول اليوم بنفسه، ثم دعا الثالثة فذكر مثل الأولى والثانية، ثم قال بعد قوله: أدخل؟ فلا بد من الدخول، فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صوت ملك الموت -عليه السلام- فقال: يا فاطمة من بالباب؟ فقالت: يا رسول الله إن رجلا يستأذن في الدخول فأجبناه مرة بعد أخرى فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي وارتعدت فرائصي، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا فاطمة أتدري من بالباب؟ هذا هادم اللذات ومفرق الجماعات، هذا مرمل الأزواج، ومؤتم الأولاد، هذا مخرب الدور، وعامر القبور، هذا ملك الموت، صلى الله عليه، ادخل يرحمك الله يا ملك الموت، فدخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا ملك الموت جئتني زائرا أم قابضا؟ قال: جئتك زائرا وقابضا، وأمرني الله -عز وجل- أن لا أدخل إلا بإذنك ولا أقبض روحك إلا بإذنك، فإن أذنت وإلا رجعت إلى ربي -عز وجل- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل هذا الرحيل من الدنيا فبشرني بما لي عند الله، فقال: أبشرك يا حبيب الله، إني تركت أبواب السماء قد فتحت والملائكة قد قاموا صفوفا بالتحية والريحان، يحيون روحك يا محمد، فقال: لوجه ربي الحمد، فبشرني يا جبريل، قال: أبشرك أن أبواب الجنة قد فتحت وأنهارها قد اضطربت وأشجارها قد تدلت، وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد، قال: لوجه ربي الحمد، فبشرني يا جبريل، قال: أبواب النيران قد أطبقت لقدوم روحك يا محمد، قال: لوجه ربي الحمد، فبشرني يا جبريل، قال: أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة، قال: لوجه ربي الحمد فبشرني يا جبريل، قال: يا حبيبي عما تسألني قال أسألك عن غمي وهمي، من لقراء القرآن من بعدي؟ ومن لصوام شهر رمضان من بعدي؟ من لحجاج بيت الله من بعدي؟ من لأمتي المصطفاة من بعدي؟ قال: أبشرك يا حبيب الله، فإن الله -عز وجل- يقول: قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك يا محمد، قال: الآن طابت نفسي، ادن يا ملك الموت، فانته إلى ما أمرت، فقال علي: يا رسول الله، إذا أنت قبضت فمن يغسلك وفيم نكفنك؟ فذكر الحديث إلى قوله: ثم ادخلوا فقوموا صفوفا صفوفا لا يتقدم علي أحد، وقد تقدم ذكر ذلك قريبا .

ثم قال: فقالت فاطمة -رضي الله عنها-: اليوم الفراق فمتى ألقاك؟ قال لها: يا بنية تلقاني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد علي الحوض من أمتي، قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقاني عند الميزان، وأن أشفع لأمتي، قالت: فإن لم ألقك يا رسول الله؟ قال: تلقاني عند الصراط وأنا أنادي يا رب سلم أمتي من النار، فدنا ملك الموت -عليه السلام- فعالج قبض روح رسول الله - صلى الله عليه وسلم-فلما بلغ الروح إلى الركبتين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أواه، فلما بلغ الروح إلى السرة نادى النبي -صلى الله عليه وسلم-: وا كرباه، فقالت فاطمة: كربي لكربك يا أبتاه، فلما بلغ الروح إلى التندوة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل ما أشد مرارة الموت، فولى جبريل -عليه السلام- وجهه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كرهت النظر إلي يا جبريل؟ فقال جبريل: يا حبيبي ومن يطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت، فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم ذكر بعد ذلك غسله وتجهيزه والصلاة عليه والدفن وتعزية فاطمة -رضي الله عنها- كما سيأتي ذلك .

فهذا السياق هو الذي أشار إليه العراقي وفيه اختلاف، وأما حديث الحسين بن علي فلفظه عند الطبراني: أن جبريل هبط على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم موته، فقال: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموما وأجدني مكروبا، فاستأذن ملك الموت على الباب، فقال جبريل: يا محمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال: ائذن له، فأذن له، فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: إن الله أرسلني لك وأمرني أن أطيعك، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها، قال: وتفعل يا ملك الموت، قال: نعم، بذلك أمرت، قال له جبريل: إن الله قد اشتاق إلى [ ص: 296 ] لقائك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: امض لما أمرت به.

وروى البيهقي في دلائل النبوة من حديث جعفر بن محمد، عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث نزل عليه جبريل -عليه السلام- فقال: يا محمد، إن الله قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك فقال: أجدني يا جبريل مكروبا، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت، ثم قال جبريل: يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال: ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله -عز وجل- أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك إذا حضرت إليك، فإن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله تعالى قد اشتاق إلى لقائك قال -صلى الله عليه وسلم-: فامض يا ملك الموت لما أمرت به، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا، فقبض روحه. هكذا ساقه صاحب المواهب وفي سياقه نقص، فالذي في نسخ الدلائل: فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت ومعهما ملك آخر يسكن الهواء لم يصعد السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط، يقال: له إسماعيل، موكل على سبعين ألف ملك، كل ملك على سبعين ألف ملك، والباقي سواء. وقد ساقه الشامي في سيرته على التمام .

وروى الطبراني أيضا من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه ورأسه في حجر علي -رضي الله عنه- فاستأذن، فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال له علي -رضي الله عنه-: ارجع فإنا مشاغيل عنك، فقال -صلى الله عليه وسلم-: هذا ملك الموت، ادخل راشدا، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام قال: فبلغني أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده .

وروى الحاكم وابن سعد من طرق أنه - صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه في حجر علي، قال الحافظ في الفتح: وهو غير معارض لحديث عائشة في الصحيح: مات -صلى الله عليه وسلم- بين سحري ونحري; لأن كل طريق من تلك الطرق لا يخلو عن شيء فلا يلتفت لذلك، وروى البخاري من طريق عروة عن عائشة قالت: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه التي قبض فيها، فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارني أنه يقبض في وجعه التي توفي فيه فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.

ومن طريق مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال صلى الله عليه وسلم: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها. ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة -رضي الله عنها- وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه فقبلته، قال صاحب المواهب: اتفقت الروايات على أن الذي سارها به أولا فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت في مرضه ذلك، واختلفت فيما سارها به فضحكت، ففي رواية عروة أنه إخباره إياها أنها أول أهله لحوقا به، وفي رواية مسروق أنه إخباره إياها أنها سيدة نساء الجنة، وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين فما زاد مسروق قول عائشة، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- فسألتها فقالت: أسر إلي أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي، وإنك أول أهل بيتي لحوقا بي، وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: أن عائشة لما رأت بكاءها وضحكها قالت: إني كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء فإذا هي من أجن النساء، ويحتمل تعدد القصة، وفي رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه بخلاف رواية مسروق، ففيها أنه ظن ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن، وقد قال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أول أهله لحوقا به سببا لبكائها ولضحكها معا [ ص: 297 ] باعتبارين فذكر كل من الراويين ما لم يذكره الآخر، وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة، عن عائشة في سبب البكاء: أنه ميت، وفي سبب الضحك: الأمرين الأخيرين، ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها: أن سبب البكاء موته وسبب الضحك لحاقها به ،وفي سياق المصنف: وجبهته ترشح رشحا، وفيه: يا عائشة، إن نفس المؤمن تخرج بالرشح ونفس الكافر تخرج من شدقه كنفس الحمار. رواه الطبراني في الكبير، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية من حديث ابن مسعود: نفس المؤمن تخرج رشحا وإن نفس الكافر تسيل كما تسيل نفس الحمار، ورواه في الأوسط بلفظ: نفس المؤمن تخرج رشحا ولا أحب موتا كموت الحمار وموت الفجأة، وروح الكافر تخرج من أشداقه، وفي رواية له قيل له: وما موت الحمار قال: روح الكافر تخرج من أشداقه.

وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث بريرة: المؤمن يموت بعرق الجبين، وتقدم حديث سليمان: ارقبوا الميت عند موته ثلاثا: إن رشحت جبينه، الحديث. وروى البيهقي في الشعب من طريق علقمة بن قيس، حدثني ابن مسعود، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: موت المؤمن برشح الجبين قال: عبد الله ولا أحب موتا كموت الحمار.

وروى ابن أبي شيبة والبيهقي من هذا الوجه عن علقمة عن ابن مسعود من قوله: إن نفس المؤمن تخرج رشحا وإن نفس الكافر أو الفاجر تخرج من شدقه كما تخرج نفس الحمار وفي سياق المصنف: فإذا أطاق الكلام قال: الصلاة الصلاة، إلخ. روي ذلك من حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: الصلاة وما ملكت أيمانكم، الصلاة وما ملكت أيمانكم. رواه أحمد وعبد بن حميد والنسائي وابن ماجه وابن سعد وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والضياء ورواه ابن سعد أيضا والطبراني من حديث أم سلمة، ورواه الطبراني أيضا من حديث ابن عمر.




الخدمات العلمية