الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
القول في صفة الجنة وأصناف نعيمها .

اعلم أن تلك الدار التي عرفت همومها ، وغمومها تقابلها دار أخرى ، فتأمل نعيمها ، وسرورها ، فإن من بعد من أحدهما استقر لا محالة في الأخرى ، فاستثر الخوف من قلبك ، بطول الفكر في أهوال الجحيم ، واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم ، الموعود لأهل الجنان ، وسق نفسك بسوط الخوف ، وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم فبذلك تنال الملك العظيم وتسلم من العذاب الأليم فتفكر في أهل الجنة ، وفي وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم جالسين على منابر الياقوت الأحمر في خيام من اللؤلؤ الرطب الأبيض فيها بسط من العبقري الأخضر متكئين على أرائك منصوبة على أطراف أنهار مطردة بالخمر ، والعسل محفوفة بالغلمان ، والولدان ، مزينة بالحور العين ، من الخيرات الحسان كأنهن الياقوت والمرجان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان يمشين في درجات الجنان إذا اختالت إحداهن في مشيها ، حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها من طرائف الحرير الأبيض ما تتحير فيه الأبصار مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ ، والمرجان ، شكلات غنجات عطرات آمنات من الهرم والبؤس مقصورات في الخيام في قصور من الياقوت بنيت وسط روضات الجنان ، قاصرات الطرف عين ثم يطاف عليهم وعليهن ، بأكواب ، وأباريق ، وكأس من معين ، بيضاء لذة للشاربين ، ويطوف عليهم خدام ، وولدان ، كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون ، في مقام أمين في جنات وعيون ، في جنات ونهر ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم لا يرهقهم قتر ولا ذلة ، بل عباد مكرمون ، وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ، لا يخافون فيها ، ولا يحزنون ، وهم من ريب المنون آمنون ، فهم فيها يتنعمون ويأكلون من أطعمتها ويشربون من أنهارها لبنا وخمرا وعسلا في أنهار أراضيها من فضة وحصباؤها مرجان وعلى أرض ترابها مسك أذفر ونباتها زعفران ، ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين على كثبان الكافور ويؤتون بأكواب وأي أكواب بأكواب من فضة مرصعة بالدر ، والياقوت ، والمرجان ، كوب فيه من الرحيق المختوم ، ممزوج به السلسبيل العذب كوب يشرق نوره من صفاء جوهره ، يبدو الشراب من ورائه برقته ، وحمرته ، لم يصنعه آدمي فيقصر في تسوية صنعته وتحسين صناعته في كف خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها ولكن من أين للشمس مثل حلاوة صورته ، وحسن أصداغه ، وملاحة أحداقه .

فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها ، ويوقن بأنه لا يموت أهلها ، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها ويتهنأ بعيش دونها ؟ والله لو لم يكن فيها إلا سلامة الأبدان مع الأمن من الموت ، والجوع ، والعطش ، وسائر أصناف الحدثان ، لكان جديرا بأن يهجر الدنيا بسببها ، وأن لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته كيف وأهلها ملوك آمنون وفي أنواع السرور ممتعون ، لهم فيها كل ما يشتهون ، وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون ، وإلى وجه الله الكريم ينظرون ، وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنان ، ولا يلتفتون ، وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون ، وهم من زوالها آمنون قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ينادي مناد يا أهل الجنة : إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله عز وجل : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون .

ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة فاقرأ القرآن ، فليس وراء بيان الله تعالى بيان ، واقرأ من قوله تعالى :ولمن خاف مقام ربه جنتان إلى آخر سورة الرحمن ، واقرأ سورة الواقعة ، وغيرها من السور .

وإن أردت أن تعرف تفصيل صفاتها من الأخبار ، فتأمل الآن تفصيلها ، بعد أن اطلعت على جملتها وتأمل أولا : عدد الجنان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان قال جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب ، آنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ، في جنة عدن .

التالي السابق


(القول في صفة الجنة وأصناف نعيمها)

اللهم اجعلنا من أهلها، وارزقنا من نعيمها. (اعلم) أجاب الله دعاءك، (أن تلك الدار التي عرفت همومها، وغمومها) ، وما فيها من الأهوال، والأنكاد، (تقابلها دار أخرى، فتأمل نعيمها، وسرورها، فإن من بعد من إحداهما استقر لا محالة في الأخرى، فاستثر الخوف من قلبك، بطول الفكر في أهوال الجحيم، واستثر الرجاء بطول الفكر في النعيم المقيم، الموعود لأهل الجنان، وسق نفسك بسوط الخوف، وقدها بزمام الرجاء إلى الصراط المستقيم) ; إذ الأمر منوط [ ص: 522 ] بين الخوف والرجاء، (فبذلك تنال الملك العظيم) ، والنعيم المقيم، (وتسلم من العذاب الأليم) في نار الجحيم، (فتفكر في أهل الجنة، وفي وجوههم نضرة النعيم) ، أي: بطراوته، وبهجته، (يسقون من رحيق) أي: من خمر الجنة، (مختوم) بالمسك، (جالسين على منابر الياقوت الأحمر) ، وهو البهرماني، وهو أجود أنواعه، وأعلاها ثمنا في الدنيا، (في خيام) منصوبة (من اللؤلؤ الرطب الأبيض) ، كأنه ماء منعقد، أي: منضودة به، (فيها بسط) ، جمع بساط، هو ما يفرش (من العبقري الأخضر) ، منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، فينسبون إليه كل شيء عجيب الصنعة، ثم إن الأخضر إنما وقع صفة للرفرف في القرآن، لا للعبقري، (متكئين) فيها (على الأرائك) جمع أريكة، وهي على هيئة كرسي يقعد عليه، (منصوبة) ، قد نصبت في مقدم المجلس، (على أطراف أنهار مطردة) ، يقال: اطردت الأنهار، بالتشديد، أي: جرت (بالخمر، والعسل) ، بدلا عن الماء، (محفوفة بالغلمان، والولدان، مزينة بالحور العين، من الخيرات الحسان) ، والأصل فيه: الخيرات بالتشديد، ثم خفف، (كأنهن) في بياض لون الجسد، وحمرة الخدود، والشفاه، (الياقوت والمرجان) وهو اللؤلؤ الأبيض، (لم يطمثهن) أي: لم يمسهن قط، ( إنس ولا جان) أي: لم يمس الإنسيات إنس، ولا الجنيات جن، (إذا اختالت في مشيتها، حمل أعطافها سبعون ألفا من الولدان عليها) ، أي: الأرائك، (من طرائف الحرير الأبيض) ، أي: أنواعه المستملحة، (ما تتحير فيه الأبصار) ، أي: تندهش، ويحتمل عود الضمير إلى الحور، (مكللات بالتيجان المرصعة باللؤلؤ، والمرجان، شكلات) ، أي: ذات شكلة، بالكسر، أي: دل، (غنجات) ، أي: غنج، (عطرات) : طيبة الرائحة، (آمنات من الهرم) : هو الطعن في السن، (والبؤس) : هو ضد النعومة، (مقصورات) ، أي: مخدرات، (في قصور) مبنية (من) قطع (الياقوت) الأحمر، (بنيت وسط روضات الجنات، قاصرات الطرف) عن غير أزواجهن، (عين) ، جمع عيناء، وهي واسعة العين، (ثم يطاف عليهم وعليهن، بأكواب، وأباريق، وكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، ويطوف عليهم) برسم الخدمة (خدام، وولدان، كأمثال اللؤلؤ المكنون) ، في صفاء لونهم، (جزاء بما كانوا يعملون، وهم في مقام أمين) ، مأمون من المكدرات، (في جنات وعيون، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، ينظرون فيها إلى وجه الملك الكريم) ، كفاحا من غير حجاب، (وقد أشرقت في وجوههم نضرة النعيم) ، أي: تلألأت، (لا يرهقهم) ، أي: لا يصيبهم (قترة) ، أي: غبرة، (ولا ذلة، بل عباد مكرمون، وبأنواع التحف من ربهم يتعاهدون) ، أي: يأتيهم كل حين، (فهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يخافون، ولا يحزنون، وهم عن ريب المنون) ، أي: الداهية (آمنون، فهم فيما يتنعمون ويأكلون من أطعمتها) اللذيذة، ويشربون من أنهارها المطردة، (لبنا) تارة، (وخمرا وعسلا) أخرى، (في أنهار أرضها من فضة) مضيئة، (وحصباؤها مرجان) ، اللؤلؤ الأبيض، (وعلى أرض ترابها مسك أذفر) ، ظاهر الرائحة، شديدها، (ونباتها زعفران، ويمطرون من سحاب فيها من ماء النسرين) ، بكسر النون، وسكون السين المهملة، مشموم، معروف، فارسي، معرب، وهو فعليل، أو فعلين، وقال الأزهري: لا أدري أعربي أم لا، (على كثبان الكافور) ، جمع كثيب، وهو التل المرتفع، (ويؤتون بأكواب) ، جمع كوب بالضم، وهو من الكيزان ما لا عروة له، (وأي أكواب) ! ويجمع على الأكاويب، (بأكواب من فضة مرصعة بالدر، والياقوت، والمرجان، كوب منها فيه من الرحيق المختوم، ممزوج به السلسبيل العذب) ، أي: ماء من عين السلسبيل، (كوب يشرق نوره من صفاء جوهره، يبدو الشراب من ورائه برقته، وحمرته، لم يصغه آدمي فيقصر في تسوية صنعته) ، وإتقانها، (في كف خادم يحكي ضياء وجهه الشمس في إشراقها) ، [ ص: 523 ] وإنارتها، (ولكن من أين للشمس مثل حلاوة صورته، وحسن أصداغه، وملاحة أحداقه) ، وقد لاحظ هذا المعنى مجنون بني عامر، فقال يخاطب ليلى:


أنيري مكان البدر إن أفل البدر وقومي مقام الشمس ما استأخر الفجر ففيك من الشمس المنيرة ضوءها
وليس لها منك التبسم والثغر



(فيا عجبا لمن يؤمن بدار هذه صفتها، ويوقن بأنه لا يموت أهلها، ولا تحل الفجائع بمن نزل بفنائها) ، أي: بساحتها، (ولا تنظر الأحداث بعين التغيير إلى أهلها) ، لا منهم منها، (كيف يأنس بدار قد أذن الله في خرابها) ، وزوالها؟ (و) كيف (يتهنأ بعيش دونها؟ والله لو لم يكن فيها) ، أي: في الدار الأخرى، (إلا سلامة الأبدان) من العلل، (مع الأمن من الموت، والجوع، والعطش، وسائر أصناف الحدثان، لكان جديرا بأن يهجر الدنيا بسببها، وأن لا يؤثر عليها ما التصرم والتنغص من ضرورته) ، وإن كانت النفوس تكل من حمل أعباء المصائب، وتعيا وتتقاعس عن إجابة دعاة الموت، بل تغالط به، حتى صار عندها نسيا; لكونها مفطورة على كراهة المؤلمات، والنفرة عن مفارقة المألوفات، إلا أنها إذا انكشفت لها عواقب الأمور المريرة، من النتائج النفيسة، والخيور الكثيرة، أقدمت على أخطار تلك الأمور، وتوصلت بكآبة الدواء على ما في الشفاء من السرور، (كيف وأهلها ملوك آمنون) ; لأن الهيآت المذكورة، والحالات المسطورة، إنما تتيسر للملوك، ويشير إليه قوله تعالى: رأيت نعيما وملكا كبيرا

(وفي أنواع السرور ممتعون، لهم فيها كل ما يشتهون، وهم في كل يوم بفناء العرش يحضرون، وإلى وجه الله الكريم ينظرون، وينالون بالنظر من الله ما لا ينظرون معه إلى سائر نعيم الجنات، ولا يلتفتون، وهم على الدوام بين أصناف هذه النعم يترددون، وهم من زوالها آمنون) .

ومن جملة تلك النعم على الإجمال تسليم الملائكة عليهم، في كل حين، وملاقاة أهلهم، وهدايتهم إلى قصورهم، وما تشتمل عليه مساكنهم من الطرف، والتحف، وارتفاعها، واتساعها، وغزارة أنهارها، والتفاف أشجارها، وتنوع ثمارها، وملابسهم، وحليهم، وحللهم، وأوانيهم، وفرشهم، وسلامة عيشهم من النقصان، واجتماعهم مع أحبابهم في أنعم الحالات، وأكمل المسرات، وجلوسهم على منابر النور، ومرافقتهم للنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وتنعمهم بمشاهدتهم، ومجالساتهم، وزياراتهم لربهم -سبحانه وتعالى- وحضورهم عنده في مقعد صدق، وتشنف أسماعهم بمخاطباته تعالى- لهم، وإضافتهم إليه بالعندية، وكمال طمأنينتهم برضاه عنهم، واستقرار البسط التام، بدوام رضاه سبحانه-، وغير ذلك من النعم، والكرامات، مما لا يدخل تحت حصر النقول، ولا إحصاء العقول .

(قال أبو هريرة ) -رضي الله عنه-: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ينادي مناد يوم القيامة: إن لكم) يا أهل الجنة (أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله -عز وجل-: ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون) قال العراقي : رواه مسلم، من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد، اهـ .

قلت: وكذلك رواه أحمد، وأبو بكر ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي، والنسائي .

(ومهما أردت أن تعرف صفة الجنة) ، وما أعد فيها من النعيم، (فاقرإ القرآن، فليس وراء بيان الله، واقرأ من قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان إلى آخر سورة الرحمن، واقرأ سورة الواقعة، وغيرها من السور، وإن أردت أن تعرف تفصيل صفاتها من الأخبار، فتأمل الآن تفصيلها، بعد أن اطلعت على جملتها) ، وهو أيضا تفصيل نسبي، وإلا فكيف يحاط بالجنة علما على جهة التفصيل الحقيقي، والله -سبحانه وتعالى- يقول في كتابه العزيز: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، وثبت في الحديث القدسي: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر . وإنما ذكر المصنف هنا بعض الآيات، والأخبار المنبهة على الجنة، وما تشتمل عليه من جليل النعم، وخطر الكرم، منبها بها على كمال صفاتها، [ ص: 524 ] وعظم قدر كرامتها، وابتدأ بذكر عددها، ثم بأبوابها، واتساعها، ثم في غرفها، وحائطها، وأشجارها، وأنهارها، ثم في لباسهم فيها، وطعامهم، وشرابهم، ثم في صفة حورها، وولدانها، ثم في رؤية الله -عز وجل-، فقال:

(وتأمل أولا: عدد الجنان

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: في قوله تعالى: ولمن خاف مقام ربه جنتان قال) : فيما أخبرناه عبد الخالق ابن أبي بكر الزبيري، قال: أخبرنا محمد بن إبراهيم الكوراني، أخبرنا الحسن بن علي بن يحيى، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد القادر الطبري، أخبرنا عبد الواحد بن إبراهيم الحصاري، أخبرنا الشرف عبد الحق بن محمد السنباطي، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن محمد المتبولي، أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن أحمد التنوخي، أخبرنا أحمد بن أبي طالب الحجار، أخبرنا أبو النجا عبد الله بن عمر بن علي البغدادي، أخبرنا سعيد بن أحمد بن الحسن بن البناء، أخبرنا الشريف أبو نصر محمد بن محمد بن علي الزيني، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن علي الوراق، حدثنا أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا محمد بن بشار، ونصر بن علي، قالا: حدثنا أبو عبد الصمد العمي، حدثنا أبو عمران الجوني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم -عز وجل- إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن ) . هذا حديث صحيح، أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من هذا الوجه .

ورواه أحمد، والطبراني، بلفظ: جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب، حليتهما، وآنيتهما، وما فيهما، وجنتان من فضة، حليتهما، وآنيتهما، وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن، وهذه الأنهار تشخب من جنة عدن، ثم تصدع بعد ذلك أنهارا .

ورواه الطبراني أيضا، وابن أبي حاتم، بلفظ: جنتان من ذهب للمقربين، ومن دونهما جنتان من ورق، لأصحاب اليمين . قال الحافظ في الفتح: وظاهر الحديث أن الجنتين من ذهب، لا فضة فيهما، وبالعكس، ويعارضه حديث أبي هريرة، قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة، ما بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة. أخرجه أحمد، والترمذي، وصححه ابن حبان، وجمع بأن الأول: صفة ما فى كل جنة، من آنية وغيرها. والثاني: صفة حوائط الجنان، اهـ .

وقوله: إلا رداء الكبرياء، قال النووي : لما كان تستعمل الاستعارات للتفهيم، عبر عن مانع رؤيته، -تقدس- برداء الكبرياء، فإذا تجلى الله عليهم، يكون إزالة لذلك. وقال غيره: المراد أنه إذا دخل المؤمنون الجنة، وتبوؤا مقاعدهم، رفع ما بينهم وبين النظر إلى ربهم من الموانع، والحجب، التي منشؤها كدورة الجسم، ونقص البشرية، والانهماك في المحسوسات الحادثة، ولم يبق ما يحجزهم عن رؤيته إلا هيبة الجلال، وسبحات الجمال، وأبهة الكبرياء، فلا يرفع ذلك عنهم إلا برأفة، ورحمة منه، تفضلا على عباده. وقال عياض : استعار لعظيم سلطان الله، وكبريائه، وعظمته، وجلاله، المانع لإدراك أبصار البشر مع ضعفها لذلك رداء الكبرياء، فإذا شاء تقوية أبصارهم، وقلوبهم، كشف عنهم حجاب هيبته، وموانع عظمته .

وقوله: في جنة عدن، راجع إلى القوم، أي: وهم في جنة عدن، لا إلى الله; لتنزهه عن أن تحويه الأمكنة، قاله عياض، وقال القرطبي : يتعلق بمحذوف في كل الحال من القول، أي: كائنين في جنة عدن، وقيل: متعلق بمعنى الاستقرار في الظرف، فيفيد انتفاء هذا الحصر، في غير الجنة، وقال الهروي : بين به أن النظر لا يحصل إلا بعد الإذن لهم في الدخول في جنة عدن; سميت بها لأنها محل قرار رؤية الله تعالى، ومنه العدن، لمستقر الجواهر، وقال الحكيم الترمذي : الفردوس سرة الجنة، ووسطها، والفردوس جنات عدن، فعدن كالمدينة، والفردوس كالقرى حولها، فإذا تجلى الوهاب لأهل الفردوس، رفع الحجاب، وهو المراد برداء الكبرياء هنا، فينظرون إلى جلاله، وجماله، فيضاعف عليهم من إحسانه، ونواله .



(فصل)

اعلم أن للجنة أسماء عديدة، باعتبار صفاتها، ومسماها واحد، باعتبار ذواتها، فهي مترادفة من هذا الوجه، مختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة، هو الاسم العام، المتناول لتلك الذوات، وما اشتملت عليه من النعيم، والسرور، وقرة العين، وهذه اللفظة مشتقة من الجن، وهو الستر، ومنه سمي البستان جنة; لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدا، كما جاء في الخبر، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لأم حارثة، لما قتل ابنها حارثة في بدر : يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى، وقال تعالى: ومن دونهما جنتان فذكرهما، ثم قال: ومن دونهما جنتان [ ص: 525 ]

وفي حديث أبي موسى، عند الشيخين، الذي ذكره المصنف: جنتان من ذهب، وجنتان من فضة، فهن أربع. كما دلت عليه رواية الطبراني : الجنان أربع. وقال القرطبي : هي سبع، وعدها، وأعلاهن جنة عدن، وهي منازل المرسلين، والشهداء، والصديقين، وقد ورد في الخبر: أنه تعالى غرسها بيده، وهي قصبة الجنة، وفيه الكثيب الذي يقع فيه الرؤية، وعليها تدور ثمانية أسوار، بين كل سورين جنة، فالتي تلي جنة عدن من الجنان، جنة الفردوس، وأصلها: البستان، وهي أوسط الجنان الذي دون جنة عدن، وأفضلها، ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، ثم دار السلام، ثم دار المقامة، ومنهم من قسم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة: جنة اختصاص إلهي، وهي التي تدخلها الأطفال، وأهل الفترة. الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها. الثالثة: جنة الأعمال، وهي التي تنزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل، كان له من الجنة أكثر، وسواء كان الفاضل دون المفضول، أو لم يكن، غير أن فضله في هذا المقام بهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلا وله جنة، ويقع التفاضل فيها بين أصحابها، بحسب ما تقتضي أحواله، والله أعلم .




الخدمات العلمية