تنبيهات 
الأول : صح في أحاديث كثيرة أن الطاعون شهادة .  قيل : وإذا كان كذلك فكيف قرن  [ ص: 304 ] بالدجال ، وكيف مدحت المدينة  الشريفة بأنه لا يدخلها؟ والجواب أنه كونه شهادة ورحمة ليس المراد بوصف ذلك ذاته ، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه وينشأ عنه ، وأنه سببه ، فإذا تقرر ذلك واستحضر ما ورد في الأحاديث من أن طعن الجن ظهر به مدح المدينة  بأنه لا يدخلها إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة  الشريفة ، ومن اتفق دخوله إليها منهم لا يتمكن من آحاد أهلها بالطعن حماية من الله تعالى لهم منهم . فإن قيل : 
طعن الجن لا يختص بوقوعه من كفارهم في مؤمني الإنس ، بل يقع من مؤمني الجن في كفار الإنس ، فإذا سلم منع الجن الكفار من المدينة ،  لم يمنع من آمن منهم من دخولها؟ فالجواب : إن دخول كفار الإنس المدينة  غير مباح ، فإنه إذا لم يسكن المدينة  إلا من أظهر الإسلام ، جرت عليه أحكام المسلمين ، وصار من لم يكن خالص الإسلام تبعا للخالص ، فحصل الأمن من دخول الجن إليهم ، فلذلك لا يدخلها الطاعون أصلا . قال الحافظ في بدل الطاعون في أخبار المدينة :  وهذا الجواب أحسن من جواب  القرطبي  في "المفهم" حيث قال : "المعنى : لا يدخلها من الطاعون  مثل الذي في غيرها ، كطاعون عمواس والجارف" . وهو جواب صالح على تقدير التنزل أن لو وقع شيء من ذلك بها . وقال غيره : سبب الرحمة لم ينحصر في الطاعون 
وقد قال صلى الله عليه وسلم :  "غير أن عافيتك أوسع لي" ، 
فإن ذلك من خصائص المدينة  الشريفة ، ولوازم دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصحة . وأجاب المنبجي بأجوبة منها : أنها صغيرة ، فلو وقع بها الطاعون أفنى أهلها ، ومنها أنه عوضهم عن الطاعون بالحمى ، لأن الطاعون يأتي بعد مدة ، والحمى تتكرر في كل مدة ، فتعادلا . قال الحافظ : "ويظهر لي جواب أخص من هذه الأجوبة بعد استحضار 
حديث أبي عسيب  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  "أتاني جبريل  بالحمى والطاعون ، فأمسكت الحمى بالمدينة ،  وأرسلت الطاعون إلى الشام"  ، 
الحديث ، وهو أن الحكمة في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة  كان في قلة من أصحابه عددا ومددا من زاد وغيره ، وكانت المدينة  وبيئة كما سبق ، فناسب الحال الدعاء بتصحيح المدينة  لتصح أجساد المقيمين بها ليقووا على جهاد الكفار ، وخير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرين ، يحصل لمن أصاب كلا منهما عظيم الثواب ، وهما الحمى والطاعون ، فاختار الحمى بالمدينة؛  لأن أمرها أخف من أمر الطاعون ، لسرعة الموت به غالبا . 
فلما أذن له في القتال ، كانت قضية استمرار الحمى ضعف الأجساد التي تحتاج إلى القوة في الجهاد ، فدعا حينئذ بنقل الحمى إلى الجحفة ، فأجيب دعاؤه ، وصارت المدينة  من أصح بلاد الله ، فإذا شاء الله موت أحد منهم ، حصل له التي كانت من الطاعون بالقتل في  [ ص: 305 ] سبيل الله الذي هو أعلى درجة ، ومن فاته ذلك منهم مات بالحمى التي هي حظ المؤمن من النار ، كل يوم منها يكفر سنة . 
واستمر ذلك بالمدينة  بعده صلى الله عليه وسلم تحقيقا لإجابة دعائه صلى الله عليه وسلم . نعم شاركتها في ذلك مكة  المشرفة فلم يدخلها الطاعون فيما مضى من الزمان كما يرويه ابن قتيبة  في "المعارف" ، ونقله جماعة من العلماء عنه وأقروه إلى زمان الإمام النووي  رحمه الله . ذكر ذلك في كتاب "الأذكار" وغيره ، لكن قد قيل إنه دخلها بعد ذلك في الطاعون العام الذي وقع في سنة تسع وسبعين وسبعمائة ، صرح بذلك غير واحد من أهل ذلك الزمان . 
الثاني : منع الطاعون عن المدينة  معجزة عظيمة؛  لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد من البلاد ، بل عن قرية من القرى ، وقد امتنع الطاعون عن المدينة بدعائه صلى الله عليه وسلم هذه المدة الطويلة . 
الثالث : ظاهر الأحاديث أن الدجال يدخل جميع البلاد ، وبذلك قال الجمهور ، وشذ  ابن حزم  فقال : "المراد أن يدخله بغتة هو وجنوده . وكأنه استبعد إمكان دخول الدجال جميع البلاد لقصر مدته ، وغفل عما ثبت في صحيح  مسلم  أن بعض أيامه يكون قدر السنة . 
الرابع : في بيان غريب ما سبق : 
"الأنقاب" : بالقاف جمع نقب بفتح النون والقاف بعدها موحدة ، والنقاب بالكسر جمع نقب بالسكون وهما بمعنى ، والمراد : الطريق في الجبل وغيره . 
"السبخة" : بفتح السين المهملة والباء الموحدة والخاء المعجمة : موضع بالمدينة بين موضع الخندق وبين جبل سلع . 
"ترجف المدينة"   : أي يحصل بها زلزلة بعد أخرى ، ثم ثالثة حتى يخرج منها من ليس مخلصا في إيمانه ، ويبقى بها الدين الخالص ، فلا يسلط عليها الدجال ، ولا يعارض هذا ما في حديث  أبي بكر :   "لا يدخل المدينة  رعب الدجال" لأن المراد بالرعب ما يحدث من الفزع من ذكره ، والخوف من عتوه ، لا الرجفة التي تقع بالزلزلة لإخراج من ليس بمخلص . 
"صلتا" : أي مجردا من غمده . 
"المخصرة" : بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الصاد المهملة ، وهي العصا أو نحوها ، يأخذها الرجل بيده . 
"يوشك" : أي يقرب .  [ ص: 306 ] 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					