الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر : في الكلام على قوله تعالى : ما كذب الفؤاد ما رأى

                                                                                                                                                                                                                              [النجم : 11] .

                                                                                                                                                                                                                              ابن القيم : «أخبر الله تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه ، وأن القلب صدق العين . [ ص: 45 ]

                                                                                                                                                                                                                              وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به ، فكذب فؤاده بصره ، بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد وعلم أنه كذلك . يقال كذبته عينه وكذبه قلبه وكذبه جسده إذا أخلف ما ظنه وحدسه . قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                              كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا ؟

                                                                                                                                                                                                                              أي أرتك ما لا حقيقة له . فنفى الله تعالى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر أن فؤاده لم يكذب ما رآه» .

                                                                                                                                                                                                                              الماوردي : «في الفؤاد قولان : أحدهما : أنه أراد صاحب الفؤاد ، فعبر عنه بالفؤاد ، لأنه قطب الجسد وبه قوام الحياة . الثاني : أنه أراد نفس الفؤاد لأنه محل الاعتقاد» .

                                                                                                                                                                                                                              اللباب : «قرأ هشام وأبو جعفر بتشديد الذال من «كذب» ، والباقون بتخفيفها . فأما الأولى فإن معناها أن ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم بعينه صدقه قلبه ، ولم ينكر الداري «أل» لتعريف ما علم حاله لسبق ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : إلى عبده » وفي قوله وهو بالأفق الأعلى وقوله ما ضل صاحبكم ، أي لم يقل إنه خيال لا حقيقة . و«ما» الثانية مفعول له موصولة ، والعائد محذوف ، ففاعل «رأى» ضمير يعود على النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وأما قراءة التخفيف فقيل فيها كذلك . وكذب يتعدى بنفسه . وقيل هو على إسقاط الخافض أي فيما رآه ، قاله مكي وغيره . قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه :


                                                                                                                                                                                                                              لو كنت صادقة الذي حدثتني     لنجوت منجا الحارث بن هشام

                                                                                                                                                                                                                              أي في الذي حدثتني ، وجوز «ما» في وجهين : أحدهما : أن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون المعنى : ما كذب الفؤاد الذي رأى بعينه ، والثاني : أن تكون مصدرية . [ ص: 46 ]

                                                                                                                                                                                                                              ابن القيم : فيكون المعنى : ما كذب فؤاده رؤيته ، وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما ، وتصديق كل واحد منهما لصاحبه ، وهذا ظاهر في قراءة التشديد . وقد استشكلها طائفة منهم المبرد ، وقال في هذه القراءة بعد ، لأنه إذا رأى بقلبه فقد علمه أيضا بقلبه ، وإذا وقع العلم فلا كذب معه ، فإذا كان الشيء في القلب معلوما فكيف يكون معه تكذيب؟ .

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما : أن الرجل قد يتخيل الشيء على خلاف ما هو به فيكذبه قلبه ، إذ يريه صورة المعلوم على خلاف ما هي عليه كما تكذبه عينه ، فيقال كذبه قلبه وكذبه ظنه وكذبته عينه ، فنفى ذلك سبحانه وتعالى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبر أن ما رآه الفؤاد كما رآه ، كمن يرى الشيء على حقيقة ما هو به ، فإنه يصح أن يقال لم تكذبه عينه .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن يكون الضمير في «رأى» عائدا إلى الرائي لا إلى الفؤاد ، ويكون المعنى : ما كذب الفؤاد ما رآه البصر ، وهذا بحمد الله لا إشكال فيه ، والمعنى : ما كذب الفؤاد بل صدقه ، وعلى القراءتين فالمعنى : ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير ولا اتهم بصره» . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              اللباب تبعا للإمام الرازي : «ويجوز أن يكون فاعل «رأى» ضميرا يعود على الفؤاد [أي] لم يشك قلبه فيما رأى بعينه» . قال الزمخشري : [ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام ، أي ما قال فؤاده ، لما رآه : لم أعرفه ولو قال ذلك لكان كاذبا ، لأنه عرفه ، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أن ما رآه حق] .

                                                                                                                                                                                                                              فما كذب الفؤاد ، هذا على قراءة التخفيف ، يقال كذبه إذا قال له الكذب ، وأما على قراءة التشديد فمعناه : ما قال إن الذي رآه كان خفيا لا حقيقة له . وأما الرائي فقيل هو الفؤاد كأنه تعالى قال : ما كذب الفؤاد ما رآه الفؤاد ، أي لم يقل إنه جن أو شيطان ، بل تيقن أن ما رآه بفؤاده صدق صحيح . وقيل الرائي هو البصر أي ما كذب الفؤاد ما رآه البصر ، ولم يتدارك أن ما رآه البصر خيال . ويحتمل أن تكون «أل» للجنس أي جنس الفؤاد ، ويكون المعنى : ما كذب الفؤاد ما رأى محمد صلى الله عليه وسلم ، أي شهدت القلوب بصحة ما رآه محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              واختلفوا في المرئي ما هو؟ فقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلتا رفرف أخضر قد ملآ ما بين السماء والأرض . رواه الفريابي والترمذي وصححه . وقيل رأى الآيات العجيبة . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : رأى ربه بفؤاده مرتين ، رواه مسلم وغيره . وسيأتي الكلام على رؤية الله تعالى في الباب الثالث .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية