ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة 
فمن الحوادث فيها: 
 [ورد على السلطان خبر ملك الروم  في جمعه العساكر]  
أنه ورد على السلطان خبر ملك الروم  في جمعه العساكر [الكثيرة] ومسيره نحو البلاد الإسلامية ، وكان السلطان في فل من العسكر؛ لأنهم عادوا من الشام  جافلين إلى خراسان  للغلاء الذي استنفد أموالهم ، فطلبوا مراكزهم راجعين ، وبقي السلطان في نحو أربعة آلاف غلام ، ولم ير مع ذاك أن يرجع إلى بلاده ، ولم يجمع عساكره فيكون هزيمة على الإسلام ، وأحب الغزاة والصبر فيها ، فأنفذ خاتون  السفرية ونظام الملك والأثقال إلى همذان ،  وتقدم [إليه] بجمع العساكر وإنفاذها إليه ، وقال له ولوجوه عسكره: أنا صابر في هذه الغزاة صبر المحتسبين ، وصائر إليها مصير المخاطرين ، فإن سلمت فذاك ظني في الله تعالى ، وإن تكن الأخرى فأنا أعهد إليكم وأشهد الله عليكم أن تسمعوا لولدي ملك شاه وتطيعوه ، وتقيموه مقامي ، وتملكوه عليكم ، فقد وقفت هذا الأمر عليه ، ورددته إليه . 
فأجابوه بالدعاء والسمع والطاعة ، وكان ذلك من فعل نظام الملك وترتيبه ورأيه ، وأبقى السلطان مع القطعة من العسكر المذكورة جريدة ، ومع كل غلام فرس يركبه وفرس  [ ص: 124 ] يجنبه ، وسار قاصدا لملك الروم ،  وأنفذ أحد الحجاب في جماعة من الغلمان مقدمة له ، فصادف عند خلاط صليبا تحته عشرة آلاف من الروم فحاربهم فنصر عليهم ، وأخذ الصليب ، وهربوا بعد أن أثخنوا قتلا وجراحا ، وحمل مقدمهم إلى السلطان فأمر بجدع أنفه ، وأنفذ الصليب -وكان خشبا وعليه فضة- وإقطاعا من الفيروزج ، وإنجيلا كان معه في "سفط" من فضة إلى  "همذان" ،  وكتب معه: إلى نظام الملك بالفتح ، وأمر أن يحمل إلى حضرة الخلافة . 
ووصل ملك الروم  فالتقيا بموضع يقال له  "الرهوة"  في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة ، وكثر عسكر الروم  وجملة من كان مع السلطان يقاربون عشرين ألفا ، وأما ملك الروم  فإنه كان معه خمسة وثلاثون ألفا من الإفرنج وخمسة وثلاثون ألفا ، مائتين بطريق ، ومتقدم مع كل رجل منهم بين ألفي فارس إلى خمسمائة ، وكان معه خمسة عشر ألفا من الغز الذين من وراء القسطنطينية ،  ومائة ألف نقاب وحفار ، و[مائة] ألف روزجاري ، وأربعمائة عجلة تجرها ثمانمائة جاموسة عليها نعال ومسامير للدواب ، وألف عجلة عليها السلاح والسروج والعرادات والمجانيق ، منها منجنيق يمده ألف رجل ومائتا رجل . 
فراسل السلطان ملك الروم  بأن يعود إلى بلاده وأعود أنا ، وتتم الهدنة بيننا التي توسطنا فيها الخليفة ، وكان ملك الروم  قد بعث رسوله يسأل الخليفة أن يتقدم إلى السلطان بالصلح والهدنة ، فعاد جواب ملك الروم  بأني قد أنفقت الأموال الكثيرة ، وجمعت العساكر الكثيرة للوصول إلى مثل هذه الحالة ، فإذا ظفرت بها فكيف أتركها ، هيهات! لا هدنة إلا بالري ،  ولا رجوع إلا بعد أن أفعل ببلاد الإسلام مثل ما فعل ببلاد الروم .  
 [ ص: 125 ] 
فلما كان وقت الصلاة من يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ، ودعا الله تعالى ، وابتهل وبكى وتضرع ، وقال لهم: نحن مع القوم تحت الناقص ، وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة التي يدعى فيها لنا وللمسلمين على المنابر ، فإما أن أبلغ الغرض ، وإما أن أمضي شهيدا إلى الجنة ، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني ، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبا عني ، فما هاهنا سلطان يأمر ، ولا عسكر يؤمر ، فإنما أنا اليوم واحد منكم ، وغاز معكم ، فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة والغنيمة ، ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة . 
فقالوا له: أيها السلطان ، نحن عبيدك ، ومهما فعلته تبعناك فيه وأعناك عليه ، فافعل ما تريد . 
فرمى القوس والنشاب ، ولبس السلاح ، وأخذ الدبوس ، وعقد ذنب فرسه بيده وركبها ، ففعلوا مثله ، وزحف إلى الروم ،  وصاح وصاحوا ، وحمل عليهم وثار الغبار ، واقتتلوا ساعة أجلت الحال فيها عن هزيمة الكفار ، فقتلوا يومهم وليلتهم القتل الذريع ، ونهبوا وسبوا النهب والسبي العظيم . 
ثم عاد السلطان إلى موضعه ، فدخل عليه الكهراي  الخادم فقال: يا سلطان ، أحد غلماني قد ذكر أن ملك الروم  في أسره ، وهذا الغلام عرض على نظام الملك في جملة العسكر فاحتقره وأسقطه ، فخوطب في أمره فأبى أن يثبته ، وقال مستهزئا ، لعله أن يجيئنا بملك الروم  أسيرا ، فأجرى الله تعالى أسر ملك الروم  على يده . واستبعد السلطان ذلك ، واستحضر غلاما يسمى:  "شاذي"  كان مضى دفعات مع الرسل إلى ملك الروم ،  فأمره بمشاهدته وتحقيق أمره ، فمضى فرآه ثم عاد فقال: هو هو . فتقدم بضرب خيمة له ، ونقله إليها ، وتقييده وغل يده إلى عنقه ، وأن يوكل به مائة غلام ، وخلع على الذي أسره وحجبه ، وأعطاه ما اقترحه ، واستشرحه الحال فقال: قصدته وما أعرفه وحوله عشرة صبيان من الخدم ، فقال لي أحدهم: لا تقتله فإنه الملك فأسرته وحملته . 
فتقدم السلطان بإحضاره فأحضر بين يديه ، فضربه بيده ثلاث مقارع أو أربعا ،  [ ص: 126 ] ورفسه مثلها ، فقال له: ألم آذن لرسل الخليفة في قصدك وإمضاء الهدنة معك وإجابتك في ذلك إلى ملتمسك ، ألم أرسلك الآن وأبذل لك الرجوع عنك فأبيت إلا ما يشبهك ، وأي شيء حملك على البغي؟! 
فقال: قد جمعت أيها السلطان واستكثرت واستظهرت ، وكان النصر لك ، فافعل ما تريد ودعني من التوبيخ . 
قال: فلو وقعت معك ماذا كنت تفعل بي . قال: القبيح . قال: صدق والله ، ولو قال غير ذلك لكذب ، وهذا رجل عاقل جلد لا ينبغي أن يقتل . 
قال: وما تظن الآن أن يفعل بك . قال: أحد ثلاثة أقسام: الأولى قتلي . والثاني: إشهاري في بلادك التي تحدثت بقصدها [وأخذها] ، والثالث: لا فائدة في ذكره فإنك لا تفعله . قال: فاذكره . قال: العفو عني وقبول الأموال والفدية مني ، واصطناعي وردي إلى ملكي مملوكا لك نائبا في ملك الروم  عنك . 
فقال: ما اعتزمت فيك إلا هذا الذي وقع يأسك منه ، وبعد ظنك عنه ، فهات الأموال التي تفك رقبتك . فقال: يقول السلطان ما شاء ، فقال: أريد عشرة آلاف ألف دينار . فقال: والله إنك تستحق مني ملك الروم  إذا وهبت لي نفسي ، ولكني قد أنفقت واستهلكت من أموال الروم  أحد عشر ألف [ألف] دينار ، منذ وليت عليهم في تجديد العساكر والحروب التي بليت بها إلى يومي هذا ، فأفقرتهم بذلك ، ولولا هذا ما استكثرت شيئا تقترحه . 
فلم يزل الخطاب يتردد إلى أن استقر الأمر على ألف ألف وخمسمائة ألف دينار ، وفي الهدنة على ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار في كل سنة ، وإطلاق كل أسير في الروم ،  وحمل ألطاف وتحف مضافة إلى ذلك ، وأن يحمل من عساكر الروم  المزاحة العلل ما يلتمس أي وقت دعت حاجة إليها . 
 [ ص: 127 ] 
فقال له: إذا كنت قد مننت علي فعجل تسريحي قبل أن تنصب الروم  ملكا غيري ، ولا يمكنني أن أقرب منهم ، ولا أفي بشيء مما بذلته . 
فقال السلطان: أريد أن تعيد أنطاكية ،  والرها ،  ومنبج ،  فإنها أخذت من المسلمين عن قرب ، وتطلق أسارى المسلمين . فقال: إذا رجعت إلى ملكي سوف أريك ما أفعل ، فأنفذ إلى كل موضع منها عسكرا وحاصره ، لا توصل إلى تسليمها ، فأما أن أبتدئ بذلك فلا يقبل مني ، وأما الأسارى فأنا أسرحهم وأفعل الجميل معهم . 
فتقدم السلطان يفك قيده وغله ، ثم قال: أعطوه قدحا ليسقينيه ، فأعطي فظن أنه له فأراد أن يشربه فمنع منه ، وأمر أن يخدم السلطان ، ويتقدم إليه ويناوله إياه ، وأومأ إلى الأرض إيماء قليلا على عادة الروم ،  وتقدم إليه فأخذ السلطان القدح ، وجز شعره ، فجعل وجهه على الأرض ، وقال: إذا خدمت الملوك فافعل هكذا . 
وكان لذلك سبب اقتضاه وهو أن السلطان قال بالري:  ها أنا أمضي إلى قتال ملك الروم  وآخذه أسيرا ، وأقيمه على رأسي ساقيا . 
وانصرف ملك الروم  إلى خيمته ، فاقترض عشرة آلاف دينار فأصلح منها شأنه ، وفرق في الحواشي والأتباع والموكلين به ، واشترى جماعة من بطارقته واستوهب آخرين . فلما كان من الغد أحضره وقد ضرب له سريره وكرسيه اللذان أخذا منه ، فأجلسه عليهما ، وخلع قباءه وقلنسوته فألبسه إياهما ، وقال له: إني قد اصطنعتك وقنعت بقولك ، وأنا أسيرك إلى بلادك ، وأردك إلى ملكك . 
فقبل الأرض ، وقال له: أليس ينفذ إليك خليفة الله [تعالى] في أرضه رسولا ، يحملك به ويقصد إصلاح أمرك؟ فتأمر بأن يكشف رأسه ويشد وسطه ويقبل الأرض بين يديك ، وكان بلغه أنه فعل هذا بابن المحلبان ،  فقال: ما فعلت؟ فقال: أليس الأمر على ما  [ ص: 128 ] يقول . وبان له منه تغير فقال: يا سلطان في أي شيء وفقت حتى أوفق في هذا؟ وقام وكشف رأسه ، وأومأ إلى الأرض ، وقال: هذا عوض عما فعلته برسوله ، فسر السلطان بذلك ، وتقدم بأن عقدت له راية عليها مكتوب: "لا إله إلا الله محمد  رسول الله" فرفعها على رأسه وأنفذ حاجبين ومائة غلام يسيرون معه إلى قسطنطينية ، وشيعه نحو فرسخ ، فلما ودعه أراد أن يترجل فمنعه السلطان ، واعتنقا ثم افترقا . 
وهذا الفتح في الإسلام كان عجبا لا نظير له ، فإن القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله ، وكان ملك الروم  قد حدثته نفسه بالمسير إلى السلطان ولوالي الري ، وأقطع البطارقة البلاد الإسلامية ، وقال لمن أقطعه بغداد:  لا تتعرض لذلك الشيخ الصالح ، فإنه صديقنا -يعني الخليفة- وكانت البطارقة تقول: لا بد أن نشتو بالري  ونصيف بالعراق ،  ونأخذ في عودنا بلاد الشام .  
فلما كان الفتح ووصل الخبر إلى بغداد  ضربت الدبادب والبوقات ، وجمع الناس في بيت النوبة ،  وقرئت كتب الفتح ، ولما بلغ الروم  ما جرى حالوا بينه وبين الرجوع إلى بلاده ، وملكوا غيره ، فأظهر الزهد ولبس الصوف ، وأنفذ إلى السلطان مائتي ألف دينار وطبق ذهب عليه جواهر قيمتها تسعون ألف دينار ، وحلف بالإنجيل أنه ما يقدر على غير ذلك ، وقصد ملك الأرمن  مستضيفا به ، وكحله ، وبعث إلى السلطان يعلمه بذلك . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					