الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة

فمن الحوادث فيها:

أنه في تاسع عشر المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك أبو الغنائم بباب أبرز ، ووقفها على أصحاب الشافعي ، وسماها: التاجية .

وفي ثالث صفر: ورد إلى بغداد بزان وصواب بعثهما السلطان إلى المقتدي ، فطلبا تسليم خاتون إليهما ، وكانت خاتون قد أكثرت الشكاية إلى أبيها من إعراض الخليفة عنها ، فأجاب الخليفة إلى ذلك ، وخرجت وأصحبها الخليفة النقيبين الكامل والطاهر وجماعة من الخدم ، وخرج معها ابنها الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي ، وكان خروجها يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول ، وخرج الوزير عشية الخميس مشيعا لهم إلى النهروان ، وكان بين يدي محفة الأمير أبي الفضل ، ووصل الخبر في ثاني شوال بموتها بأصفهان بالجدري ، فجلس الوزير أبو شجاع بباب الفردوس للعزاء بها سبعة أيام ، ووصل النقيبان من أصبهان في ثالث عشر شوال .

وفي سلخ ذي الحجة: خرج أبو محمد التميمي وعفيف لتعزية السلطان ، فأما التميمي فعاد من أصبهان لأن السلطان توجه إلى ما وراء النهر وأكبر الخليفة عوده بغير إذن ، ويمم عفيف إلى السلطان .

وفي عشية الجمعة تاسع عشر صفر: كبس أهل باب البصرة الكرخيين ، فقتلوا [ ص: 282 ] رجلا وجرحوا آخر ، فأغلقت أسواق الكرخ ، ورفعت المصاحف على القصب ، وما زالت الفتن تزيد وتنقص إلى جمادى الأولى ، فقويت نارها ، وقتل خلق كثير ، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من الكرخ فنهبوها ، فنزل خمارتاش نائب الشحنة على دجلة ليكف الفتنة فلم يقدر ، وكان أهل الكرخ يخرجون إليه وإلى أصحابه الإقامة ، وكان أهل باب البصرة يأتون ومعهم سبع أحمر يقاتلون تحته ، وعزموا على قصد باب التبن فمنعهم أهل الحربية والهاشميون من ذلك ، وركب حاجب الخليفة وخدمه ، والقضاة: أبو الفرج بن السيبي ، ويعقوب البرزبيني ، وأبو منصور ابن الصياغ ، والشيوخ: أبو الوفاء بن عقيل ، وأبو الخطاب ، وأبو جعفر بن الخرقي المحتسب ، وعبروا إلى الشحنة وقرءوا منشورا بالكرخ من الديوان وفيه: قد حكي عنكم أمور فيجب أن نأخذ علماءكم على أيدي سفهائكم ، وأن يدينوا بمذهب أهل السنة ، فأذعنوا بالطاعة .

فبينا هم على ذلك جاء الصارخ من نهر الدجاج: الحقونا . ونصب أهل الكرخ رايتين على باب المساكين ، وكتبوا على مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي .

وفي غد يوم القتال نهب أهل الكرخ شارع ابن أبي عوف ، وكان في جملة ما نهب دار أبي الفضل بن خيرون ، فقصد الديوان مستنفرا ومعه الناس ، ورفع العامة الصلبان على القصب ، وتهجموا على الوزير أبي شجاع في حجرته [من الديوان] وكثروا من الكلام الشنيع ، ولم يصل حاجب الباب في جامع القصر إشفاقا من العامة ، وكان قد مات يومئذ هاشمي من أهل باب الأزج بنشابة وقعت فيه ، فقتل العامة علويا ورموه في خربة الحمام ، وزاد أمر الفتنة وأمر الخليفة بمكاتبة سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن [ ص: 283 ] مزيد بإنفاذ جند ، ففعل وخلع عليهم ، وجعل عليهم ، أبو الحسن الفاسي ، فنقض دور الذين قتلوا العلوي ، وحلق شعور من ليس بشريف ولا جندي ، وقتل قوم ، ونفي قوم ، فسكنت الفتنة .

قال المصنف: ونقلت من خط أبى الوفاء بن عقيل قال: عظمت الفتنة الجارية بين السنة وأهل الكرخ ، فقتل فيها نحو مائتي قتيل ، ودامت شهورا من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ، وانقهر الشحنة ، وأتحش السلطان ، وصار العوام يتبع بعضهم بعضا في الطرقات والسفن ، فيقتل القوي الضعيف ، ويأخذ ماله ، وكان الشباب قد أحدثوا الشعور والجمم ، وحملوا السلاح ، وعملوا الدروع ، ورموا عن القسي بالنشاب والنبل ، وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على السطوح ، [وارتفعوا إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم] ، ولم أجد من سكان الكرخ من الفقهاء والصلحاء من غضب ولا انزعج عن مساكنتهم ، فنفر المقتدي إمام العصر نفرة قبض فيها على العوام ، وأركب الأتراك ، وألبس الأجناد الأسلحة ، وحلق الجمم والكلالجات ، وضرب بالسياط ، وحبسهم في البيوت تحت السقوف ، وكان شهر آب ، فكثر الكلام على السلطان وقال العوام:

هلك الدين ماتت السنة ، ونصبت البدعة ، ونرى أن الله ما ينصر إلا الرافضة فنرتد عن الإسلام .

قال ابن عقيل: فخرجت إلى المسجد وقلت: بلغني أن أقواما يتسمون بالإسلام والسنة قد غضبوا على الله وهجروا شريعته ، وعزموا على الارتداد وقد ارتدوا ، فإن المسلمين أجمعوا على أن العزم على الكفر كفر ، فلقد بلغ الشيطان منهم كل مبلغ حيث دلس عليهم نفوسهم ، وغطى عيوبهم ، وأراهم أن إزالة النصرة عنهم مع استحقاقهم لها ، ولم يكشف عن عوار أديانهم حيث صب عليهم النعم صبا ، وأرخص أسعارهم ، وأمن ديارهم ، وجعل سلطانهم ، رحيما لطيفا ، وجعل لهم وزيرا صالحا يجتهد في إخراج الحكومات المشتبهة إلى الفقهاء ليخلص دينه من التبعات ، ويأخذ الإجماع [ ص: 284 ] في أكثر العبادات ، ولا يتكبر ولا يحتجب ، فأمرجوا في المعاصي ، ثم انتقلوا إلى بناء العقود بالطبول ، ولهج منهم قوم بسب ، فلما نهض السلطان بعصبية دينية أو سياسة ، وقد استحقوا قطع الرءوس ، وتخليد الحبوس ، فقعد الحمقى في مأتم النياحة يقولون:

هل رأيتم في الزمن الماضي مثل ما جرى على أهل السنة في هذه الدولة ، طاب والله الانتقال عن الإسلام لو كان ما نحن فيه حقا لنصرة الله . وحملوا الصلبان في حلوقهم ، ودعوا بشعار الرفض ، وقالوا: لا دين إلا دين أهل الكرخ ، وهل كانوا على الدين فيخرجوا ، وهل الدين النطق باللسان من غير تحقيق معتقد ، وأس المعتقد من قوم تناهوا في العصيان والشرود عن الشرع ، وسفكوا الدماء ، فلما فرضوا بعذاب ردعا لهم ليقلعوا أنكروا وتسخطوا ، فأردتم أن يتبع الحق أهواءكم ويسكت السلاطين عن قبيح أفعالكم ، حتى تفانون بالخصومة والمحاربة ، فلا في أيام السعة والدعة شكرتم النعم ، ولا في أيام التأديب سلمتم للحكيم الحكم ، فليتكم لما فسدت دنياكم أبقت بقية من أمر أديانكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية