الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

3527 - الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي .

ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وتفقه بفارس على أبي الفرج ابن البيضاوي ، [ ص: 229 ] وبالبصرة على الجزري ، وببغداد على أبي الطيب الطبري ، وسمع أبا علي بن شاذان والبرقاني وغيرهما ، وبنى له نظام الملك المدرسة بنهر المعلى ، وصنف "المهذب" "والتنبيه" و "النكت" في الخلاف ، و "اللمع" و "التبصرة" و "المعونة" و "طبقات الفقهاء" وكانت له اليد البيضاء في النظم .

أخبرنا محمد بن ناصر قال: أنشدني أبو زكريا بن علي السلار العقيلي:


كفاني إذا عز الحوادث صارم ينيلني المأكول بالأثر والأثر     يقد ويفري في اللقاء كأنه
لسان أبي إسحاق في مجلس النظر

وكثر أتباعه ومالوا إليه ، وانتشرت تصانيفه لحسن نيته وقصده ، وكان طلق الوجه ، دائم البشر ، مليح المحاورة ، يحكي الحكايات الحسنة ، وينشد الأشعار المليحة ، وذلك أنه حضر عند يحيى بن علي بن يوسف بن القاسم بن يعقوب الصوفي برباطه بغزنة يعزيه عن ابن شيخه المطهر بن أبي سعيد بن أبي الخير ، وكان قد غرق في الماء بالنهروان فأنشد .


غريق كأن الموت رق لأخذه     فلان له في صورة الماء جانبه
أبى الله أن أنساه دهري فإنه     توفاه في الماء الذي أنا شاربه

وكان يعيد الدرس في بدايته مائة مرة .

قال [المصنف رحمه الله: قال] شيخنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي: قال أبو إسحاق الشيرازي : كنت أشتهي وقت طلبي العلم الثريد بماء الباقلاء فلا يتيسر لي سنين ، فما صح لي لاشتغالي بالدرس وأخذي السبق بالغدوات والعشيات ، وكان يقول بترك التكلف حتى إنه حضر يوما الديوان فناظر مع أبي نصر ابن القشيري فأحس [ ص: 230 ] في كمه بثقل فقال له: يا سيدي ، ما هذا؟ فقال: قرصني الملاح .

وكان قشف العيش متورعا ، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: "يا شيخ" فكان يفتخر بهذا ويقول: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخا .

وحكى أبو سعد بن السمعاني عن جماعة من أشياخه: أنه لما قدم أبو إسحاق الشيرازي رسولا إلى نيسابور تلقاه الناس ، وحمل إمام الحرمين أبو المعالي الجويني غاشيته ، ومشى بين يديه [كالخدم] وقال: أنا أفتخر بهذا .

أنشدنا أبو نصر أحمد بن محمد الطوسي قال: أنشدنا أبو إسحاق لنفسه:


سألت الناس عن خل وفي     فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر     فإن الحر في الدنيا قليل

وأنبأنا أبو نصر قال: صحبت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي في طريق فأنشدني:


إذا طال الطريق عليك يوما     فليس دواؤه إلا الرفيق
تحدثه وتشكو ما تلاقي     ويقرب بالحديث لك الطريق

وسئل يوما ما التأويل فقال: حمل الكلام على أخفى محتمله .

توفي ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة في دار المظفر ابن رئيس الرؤساء بدار الخلافة من الجانب الشرقي ، وغسله أبو الوفاء بن عقيل ، وصلى عليه بباب الفردوس لأجل نظام الملك ، وأول من صلى عليه المقتدي بأمر [ ص: 231 ] الله ، وتقدم في الصلاة عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء وهو حينئذ نائب بالديوان ، ثم حمل إلى جامع القصر فصلي عليه ، ودفن بباب أبرز ، وقبره ظاهر .

والعجب أنه لم يقدر له الحج ، قال بعض أصحابه: لم يكن له شيء يحج به ، ولو شاء لحملوه على الأحداق . قال: وكذلك أبو عبد الله الدامغاني لم يقدر له الحج ، إلا أن ذاك كان يمكنه ولم يفعل .

وحدثني أبو يعلى بن الفراء قال: رأيت أبا إسحاق الشيرازي في المنام فقلت له:

أليس قد مت؟ فقال: لا والله ما مت ، ثم أبرأ إلى الله من المدرسة وما فيها . قلت: أليس قد دفنت في التربة التي تعرف ببيت فلان؟ فقال: لا والله ما مت .

3528 - طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله ، أبو الوفاء القواس .

ولد سنة تسعين وثلاثمائة ، وقرأ القرآن الكريم على أبي الحسن الحمامي ، وسمع الحديث من هلال الحفار ، وأبي الحسين بن بشران وغيرهما ، وتفقه على أبي الطيب الطبري ، ثم تركه وتفقه على القاضي أبي يعلى ، وأفتى ودرس ، وكانت له حلقة بجامع المنصور وللمناظرة والفتوى ، وكان ثقة ورعا زاهدا ، ولازم مسجده المعروف بباب البصرة لا يبرح منه خمسين سنة ، روى لنا عنه أشياخنا .

وتوفي يوم الجمعة سابع عشر شعبان من هذه السنة ، ودفن إلى جانب الشريف أبي جعفر في دكة الإمام أحمد بن حنبل .

3529 - عبد الله بن عطاء بن عبد الله ، أبو محمد الإبراهيمي .

من أهل هراة ، رحل في طلب الحديث ، وعني بجمعه ، سمع بهراة من أبي عمر المليحي ، وأبي إسماعيل الأنصاري وغيرهما ، وببوشنج من أبي الحسن [ ص: 232 ] عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداودي ، وكان يخرج الأمالي ، وسمع بنيسابور ، وبأصبهان ، وببغداد ، حدثنا عنه مشايخنا ، وكان حافظا متقنا .

قال أبو زكريا بن منده الحافظ: كان حافظا صدوقا . وقدح فيه هبة الله بن المبارك السقطي فقال: كان يصحف أسماء الرواة والمتون ، ويصر على غلطه ، ويركب الأسانيد على متون . والسقطي لا يقبل قوله . توفي [أبو محمد بن عطاء] يوم الجمعة في هذه السنة في طريق مكة حين عاد منها .

3530 - محمد بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن عبد الجبار بن مفلح ، أبو طاهر بن أبي السقر الأنباري الخطيب .

ولد ليلة الأربعاء منتصف ذي الحجة سنة ست وسبعين وثلاثمائة ، وسمع خلقا كثيرا ، وكان من الجوالين في الآفاق ، والمكثرين من شيوخ الأمصار ، وكان يقول: هذه كتبي أحب إلي من وزنها ذهبا ، وكان ثقة ثبتا فاضلا صواما قواما ، حدثنا عنه جماعة من أشياخنا ، و قد سمع منه أبو بكر الخطيب ، روي عنه في مصنفاته فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد اللخمي .

توفي في شعبان هذه السنة ، وقيل: في جمادى الآخرة ودفن بالأنبار .

3531 - محمد بن أحمد بن الحسن ، أبو عبد الله بن جردة

أصله من عكبرا ، ورد بغداد فزوجه أبو منصور بن يوسف ابنته ، وكان شيخا لم ير أحسن منه ، وأظهر صباحة ، وكان [أصل] بضاعته [عشرة نصافي] ينحدر بها من [ ص: 233 ] عكبرا إلى بغداد ، ووسع عليه الرزق حتى كان يحزر بثلاثمائة ألف دينار ، وهو الذي دفع إلى قريش بن بدران عند مجيئه مع البساسيري عشرة آلاف دينار حتى حمى داره من النهب ، وكان فيها خاتون خديجة زوجة القائم ، ولما اجتمعت بعمها السلطان طغرلبك أخبرته بحقه عليها ، فجاء إلى داره شاكرا ، وكانت داره بباب المراتب يضرب بها المثل ، وكانت تشتمل على ثلاثين دارا وعلى بستان وحمام ، ولها بابان على كل باب مسجد ، إذا أذن في أحدهما لم يسمع الآخر ، وكان لا يخرج عن حال التجار في ملبسه ومأكله ، وهو الذي بنى المسجد المعروف به بنهر معلى ، وقد ختم فيه القرآن ألوفا ، توفي ليلة الأربعاء ، ودفن يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة في التربة الملاصقة لتربة القزويني بالحربية . [ ص: 234 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية