فصل : فإذا ثبت في القتل بالمثقل قودا فالمثقل ينقسم ثمانية أقسام :  
أحدها :  قتل مثله في الأغلب كالصخرة الثقيلة والخشبة الكبيرة   ، ويقتل في أي موضع وقعت عليه من الجسد وعلى من وقعت عليه من جميع الناس ، فالقود واجب .  
والقسم الثاني :  ما لا يقتل مثله في الغالب كالحصاة   مثل النواة والخشبة مثل القلم      [ ص: 38 ] لا يقتل في أي موقع وقعت عليه من الجسد ، ولا على من وقعت عليه من جميع الناس فلا قود فيه ولا دية .  
والقسم الثالث :  ما يجوز أن يقتل مثله ، ويجوز أن لا يقتل مثله ، وهو ما توسط بين الأمرين   فلا قود ، وفيه الدية مغلظة ، وهو المراد بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :  ألا إن في قتيل العمد والخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها   .  
والقسم الرابع :  ما يقتل إذا ردد ، ولا يقتل إذا أفرد كالسوط والعصا   فإن ردده وجب فيه القود ، وإن لم يردده وجب فيه الدية دون القود .  
والقسم الخامس :  ما يقتل الصغير والمريض ويجوز أن لا يقتل الكبير والصحيح   ، فيراعى المقتول به فإن كان صغيرا أو مريضا وجب فيه القود ، وإن كان كبيرا صحيحا ففيه الدية دون القود .  
والقسم السادس :  ما يقتل إذا وقع في المواضع القاتلة ولا يقتل إذا وقع في غيرها فيراعى موضع وقوعها   ، فإن كان في مقتل ، وجب فيه القود ، وإن كان في غير مقتل وجبت فيه الدية دون القود .  
والقسم السابع :  ما يقتل بقوة الضارب ولا يقتل مع ضعفه ، فيراعى حال الضارب   ، فإن كان قويا وجب عليه القود .  
وإن كان ضعيفا وجب عليه الدية دون القود .  
والقسم الثامن : ما  يقتل في شدة الحر والبرد ، ولا يقتل مع سكونهما ، فيراعى وقت الضرب   ، فإن كان في شدة الحر والبرد وجب فيه القود ، وإن كان مع سكونهما وجب فيه الدية دون القود .  
وجملته أن يراعى حال الضارب والمضروب ، وما وقع به الضرب ليفصل لك بها أحكام هذه الأقسام .  
فصل ثان :  
وأما الخنق فعلى ضربين :  
أحدهما : بآلة وهو أن  يربط حلقه بحبل حتى يختنق فيمنع النفس   ففيه القود : لأنه ربما كان أوجى من السيف ، وسواء علقه بحبل أو أرسله فإن عفا عنه صح العفو ، وسقط القود ، وسواء تكرر منه الخنق أو لم يتكرر .  
وقال  أبو يوسف      : إن تكرر منه الخنق لم يصح العفو عنه ، وتحتم عليه القتل كالمحارب : لأنه قد صار ساعيا في الأرض بالفساد وهذا فاسد من وجهين :  
 [ ص: 39 ] أحدهما : أنه لو انحتم قتل من تكرر منه الخنق لانحتم قتل من تكرر منه القتل بالسيف وهو غير منحتم ، وإن تكرر ، وكذلك الخنق .  
والثاني : أنه لو صار في انحتام قتله كالمحارب لما اعتبر تكرار منه كما لم يعتبر في المحارب .  
والضرب الثاني : أن  يخنقه بغير آلة   مثل أن يمسك حلقه بيده حتى يمنع نفسه ولا يرفعها عنه حتى يموت فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يقدر المخنوق على خلاص نفسه لفضل قوته على قوة الخانق فهذا هو قاتل نفسه ، ولا قود له وفي وجوب الدية قولان ممن أمر غيره بقتله .  
فإن قيل : فمن أريدت نفسه فلم يدفع عنها حتى قتل لم يسقط عن قاتله القود فهلا كان حال هذا المخنوق كذلك .  
قلنا : لأن سبب القتل في المخنوق موجود ، فكان تركه إبراء وسببه في الطالب غير موجود ، فلم يكن في الإمساك قبل حدوث السبب إبراء .  
والضرب الثاني : أن لا يقدر على خلاص نفسه لفضل الخانق على قوته فعليه القود فلو رفع الخانق يده ، أو حل خناقه ، وفي المخنوق حياة ثم مات ، فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يكون نفسه ضعيفا كالأنين والشهيق فعليه القود ، ويكون بقاء هذا النفس كبقاء حركة المذبوح .  
والضرب الثاني : أن يكون نفسه قويا فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يقرب موته من حل خناقه فعليه القود لدنوه من سبب القتل .  
والضرب الثاني : أن يتأخر موته عن حل خناقه فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يكون ضمينا مريضا من وقت خناقه إلى حين موته فعليه القود ، لأن استدامة مرضه دليل على سراية خناقه .  
والضرب الثاني : أن يكون بعد خناقه على معهود صحته ثم يموت ، فلا قود عليه ولا دية ، كما لو جرح فاندمل جرحه ، ثم مات .  
وهكذا لو وضع على نفسه ثوبا أو وسادة ، وجلس عليها ، ولم يرسله حتى مات ، وجب عليه القود إذا لم يمكن دفعه فإن أرسله ونفسه باق فهو كالمخنوق بعد حل خناقه .  
فإن لطمه فمات من لطمته   هذا على ثلاثة أقسام :  
 [ ص: 40 ] أحدها : أن يكون مثلها قاتلا في الغالب لقوة اللاطم وضعف الملطوم ، فيجب عليه القود .  
والقسم الثاني : أن لا يقتل مثلها في الغالب لضعف اللاطم ، وقوة الملطوم ، فلا قود فيه ولا دية .  
والقسم الثالث : أن يقتل مثلها ، ولا يقتل لقوة اللاطم وقوة الملطوم ، فلا قود عليه وفيه الدية .  
فصل ثالث : وأما  إذا طين عليه بيتا حبسه فيه حتى مات   فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يمكنه من الطعام والشراب ، ولا يمنعه منهما ، فلا قود عليه ولا دية ، سواء كان المحبوس كبيرا أو صغيرا ، ما لم يكن طفلا لا يهتدي بنفسه إلى الأكل والشرب فيلزمه فيه القود .  
وقال  أبو حنيفة      : يضمن الصغير وإن كان يهتدي إلى الأكل والشرب إذا اقترن موته بسبب ذلك ، وإن كان من غير جهته كنهشة حية ، ولدغة عقرب لم يضمنه وهذا فاسد : لأن الحر لا يضمن باليد ولو ضمن بها كالمملوك للزم ضمانه في موته بسبب وغير سبب .  
والضرب الثاني : أن يمنعه في حبسه من الطعام والشراب فلا يخلو حاله من أربعة أقسام :  
أحدها : أن تطول مدة حبسه حتى لا يعيش في مثلها حي بغير طعام ولا شراب ، وليس لأقله حد ، وإن حده الطب باثنتين وسبعين ساعة متصلة الليل والنهار ، لما  روي أن  عبد الله بن الزبير   واصل الصيام سبعة عشر يوما ثم أفطر على سمن ولبن وصبر  ، وذهب في السمن إلى أنه يفتق الأمعاء ويلينها ، وفي اللبن إلى أنه ألطف غذاء ، وفي الصبر إلى أنه يشد الأعضاء ، فإذا مات مع طول المدة ، وجب فيه القود : لأنه قتل عمد .  
والقسم الثاني : أن تقصر مدة حبسه عن موت مثله بغير طعام ولا شراب كاليوم الواحد وما دونه : لأن الله تعالى قد أوجب إمساكه في الصوم ، ولو كان قاتلا ما أوجبه : فهذا لا قود فيه ولا دية .  
والقسم الثالث : أن تكون مدة يجوز أن يموت في مثلها ويعيش فلا قود ، وفيه الدية لأنه عمد كالخطأ .  
والقسم الرابع : أن يكون في مدة يموت في مثلها الصغير والمريض ، ولا يموت في مثلها الكبير الصحيح فيراعى حال المحبوس ، فإن كان صغيرا أو مريضا وجب فيه القود ، وإن كان كبيرا صحيحا لم يجب وهكذا الحكم لو منعه الطعام دون الشراب ، أو      [ ص: 41 ] منعه الشراب دون الطعام : لأن النفوس لا تحيا إلا بهما إلا أن الصبر عن الطعام إذا وجد شرابا أمد زمانا من الصبر عن الشراب إذا وجد الطعام .  
روي  أن  أبا ذر      - رضي الله عنه - لما أراد الإسلام اختفى من المشركين تحت أستار  الكعبة   بضعة عشرة يوما ، فكان يخرج في الليل من بين الأستار فيشرب ماء  زمزم   ، قال : فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، فأخبرت بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال :  إنها طعام طعم وشفاء سقم  فبان أن الماء يمسك الرمق فيراعى حكم كل واحد منهما إذا انفرد بالعرف المعهود في الأغلب .  
فصل رابع :  إذا ألقاه في نار مؤججة أو ألقى عليه نارا أججها   فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن لا يقدر على الخروج منها حتى يموت فيها ، وذلك لإحدى خمسة أحوال :  
إما أن يلقيه في حفرة قد أججها .  
وإما أن يربطه فلا يقدر مع الرباط على الخروج منها .  
وإما أن يطول مدى النار فلا ينتهي إلى الخروج منها .  
وإما أن يقف في طرفها فيمنعه من الخروج .  
وإما أن تثبط بدنه فيعجز عن النهوض فيها ، فهذا قاتل عمدا ، وهو أشد القتل عذابا ، ولذلك عذب الله تعالى بالنار من عصاه ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -  لا تعذبوا عباد الله بعذاب الله  فعليه القود .  
والضرب الثاني : أن يقدر على الخروج منها فهذان على ضربين :  
أحدهما : أن لا يخرج مع القدرة على الخروج حتى يموت فلا قود عليه ، وفي الدية قولان فمن أذن لغيره في قتله ، أحدهما عليه الدية كما لو قدر على مداواة جرحه فامتنع من الدواء حتى مات وجبت الدية .  
والقول الثاني : لا دية ، وعليه أرش ما لفحته النار عند إلقائه فيها : لأن التلف باستدامة النار ، والتي ينسب استدامتها فيه دون ملقيه ، وخالف تركه لدواء الجرح ، لأنه لم ينسب إلى زيادة عليه .  
والضرب الثاني : أن يخرج منها حيا ثم يموت بعد الخروج ، فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يكون تثبيط بدنه باقيا فعليه القود كالجرح إذا مات منه قبل أن يندمل .  
 [ ص: 42 ] والضرب الثاني : أن يبرأ من التثبيط فلا قود فيه كالجرح إذا مات بعد اندماله وعليه أرش ما لفحته النار وتثبيط جسده .  
فصل خامس :  إذا ألقاه في الماء فغرق   فيه فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يلقيه في لجة بحر يبعد ساحله ، فهذا قاتل عمد وعليه القود ، سواء كان يحسن العوم أو لا يحسن لأنه بالعوم لا يصل إلى الساحل مع بعده ، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :  البحر نار في نار  فشبهه بالنار لإتلافه .  
وأغزى  عمر بن الخطاب   رضي الله تعالى عنه جيشا في البحر ، وأمر عليهم  عمرو بن العاص   ، فلما عاد سأله عن أحوالهم فقال : دود على عود ، بين غرق أو فرق فآلا على نفسه أن لا يغزي في البحر أحدا    .  
والضرب الثاني : أن يلقيه في نهر أو بحر يقرب من الساحل فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يربطه أو يثقله حتى لا يقدر على الخلاص من الماء غريق فعليه القود أيضا ، كالملقى في لجة البحر .  
والضرب الثاني : أن يكون مطلقا غير مربوط ولا مثقل فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن لا يحسن العوم فعليه القود أيضا لأنه لا يقدر على الخلاص .  
والضرب الثاني : أن يحسن العوم فلا يعوم فلا قود فيه ، لأنه قدر على خلاص نفسه ، فصار متلفا لها .  
واختلف أصحابنا في وجوب الدية فخرجها بعضهم على قولين كالملقى في النار إذا قدر على الخروج منها ، ومنع الباقون من وجوبها ، قولا واحدا ، وفرقوا بين الماء والنار بأن الإلقاء في النار جناية متلفة لا يقدم الناس عليها مختارين وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه : لأن الناس قد يعومون فيه مختارين لتبرد أو تنظف ، فلا ينسبون إلى تغرير .  
فلو ألقاه في الماء فالتقمه الحوت   فهذا على ضربين :  
أحدهما : أن يكون الإلقاء في ذلك الماء غير موجب للقود على ما فصلنا فلا قود فيه إذا التقمه الحوت : لأنه تلف من غيره عليه ، وعليه الدية لأنه سبب من جهته أفضى إلى تلفه .  
 [ ص: 43 ] والضرب الثاني : أن يكون الإلقاء في ذلك الماء موجبا للقود فالتقمه الحوت قبل التلف ، ففي وجوب القود قولان :  
أحدهما : وهو ظاهر منصوص  الشافعي      : عليه القود لأنه لو لم يلتقمه الحوت لوجب فلم يسقط بالتقامه .  
والقول الثاني : حكاه  الربيع   أنه لا قود عليه لأن مباشرة تلفه حصلت بغير فعله وتلزمه الدية .  
ومن أصحابنا من حمل القولين على اختلاف حالين فالقول الذي أوجب فيه القود محمول على نيل مصر الذي يغلب عليه التماسيح فلا يسلم منها أحد ، والقول الذي أسقط فيه القود محمول على غيره من البحار والأنهار التي تخلو غالبا من مثله .  
				
						
						
