مسألة : قال  الشافعي   رضي الله عنه : وكذلك  التغليظ في النفس والجراح   في الشهر الحرام  والبلد الحرام   وذي الرحم ، وروي  عن  عثمان بن عفان      - رضي الله عنه - أنه قضى في دية امرأة وطئت  بمكة   بدية وثلث     . قال : وهكذا أسنان دية العمد حالة في ماله إذا زال عنه القصاص ( قال  المزني      ) رحمه الله : إذا كانت المغلظة أعلى سنا من سن الخطأ للتغليظ فالعامد أحق بالتغليظ إذا صارت عليه وبالله التوفيق .  
 [ ص: 217 ] قال  الماوردي      : اعلم أن  الدية على ثلاثة أقسام      :  
أحدها : دية العمد المحض ، وهي مغلظة تجب على الجاني حالة .  
والثاني : دية العمد الخطأ وهي مغلظة تجب مؤجلة على العاقلة ، فتساوى الديتان في التغليظ ، ويختلفان في التأجيل والتحمل ، فتكون في العمد المحض حالة في مال الجاني ، وفي عمد الخطأ مؤجلة على عاقلته ، لأنه لما كان عمد الخطأ أخف من العمد المحض وقد ساواه في تغليظ الدية لعمده في الفعل خالفه في التأجيل والمحل لخطئه في القصد .  
والقسم الثالث : دية الخطأ المحض فهي مخففة على ما سنذكره من صفة التخفيف تتحملها العاقلة مؤجلة في ثلاثة سنين ولا تتغلظ إلا في ثلاثة أحوال :  
أحدها : أن يكون قتل الخطأ في الحرم .  
والثاني : أن يكون في الأشهر الحرم .  
والثالث : أن يكون على ذي الرحم المحرم فتكون مغلظة في الخطأ المحض كما تتغلظ دية العمد المحض ودية العمد الخطأ ، فيصير تغليظ الدية في خمسة أحوال :  
في العمد المحض ، وفي العمد الخطأ ، وفي الخطأ المحض ، وفي الحرم ، وفي الأشهر الحرم ، وعلى ذي الرحم المحرم .  
وقال  أبو حنيفة      : لا تتغلظ دية الخطأ المحض بالحرم ولا بالأشهر الحرم ولا على ذي الرحم .  
وبه قال  مالك   والنخعي   ،  والشعبي   ، استدلالا برواية  ابن مسعود   عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :  دية الخطأ أخماس  ولم يفرق ، ولأن ما وجب بقتل الخطأ لم يتغلظ بالزمان والمكان كالكفارة ، ولأن قتل الخطأ أخف من قتل العمد ، فلما لم يكن للحرم والرحم والأشهر الحرم زيادة تأثير في قتل العمد فأولى أن لا يكون لها زيادة تأثير قتل الخطأ ، ولأن  لحرم المدينة   حرمة كما لحرم  مكة   حرمة ، ولشهر رمضان حرمة كما للأشهر الحرم حرمة : ولشرف النسب حرمة كما للرحم حرمة ، ثم لم تتغلظ الدية بحرمة  المدينة   وحرمة شهر رمضان وحرمة شرف النسب كذلك لا تتغلظ بحرمة الحرم ، وحرمة الأشهر الحرم ، وحرمة الرحم ، لأن القتل كالزنا لوجوب القتل به تارة وما دونه أخرى ، فلما لم يتغلظ حكم الزنا بالمكان والزمان والرحم لم يتغلظ حكم القتل ، ولأنه لو تغلظ حكم القتل بكل واحد من هذه الثلاثة لوجب إذا جمعها أن يضاعف التغليظ      [ ص: 218 ] بها وفي إجماعهم على سقوط هذا دليل على سقوط ذلك ، ولأن الأموال تضمن كالنفوس ، والعبد يضمن بالقتل كالحر ، ولم يتغلظ ضمان الأموال وقتل العبد بهذه الثلاثة كذلك لا يتغلظ بها ضمان النفوس في الأحرار . 
ودليلنا عليه انعقاد الإجماع به .  
روي ذلك عن  عمر   ،  وعثمان   ،  وابن عباس      .  
فأما  عمر   فروى  ليث   عن  مجاهد   عن  عمر بن الخطاب   أنه قال : من قتل في الحرم ، أو قتل في الأشهر الحرم ، أو قتل ذا رحم فعليه دية وثلث     .  
وأما  عثمان   فروى  ابن أبي نجيح   عن أبيه  أن  عثمان   قضى في دية امرأة قتلت  بمكة   بستة آلاف درهم وألفي درهم تغليظا لأجل الحرم .  
وفي رواية  الشافعي   أنه قضى في دية امرأة ديست في الطواف بالبيت فهلكت بثمانية آلاف درهم .  
وأما  ابن عباس   فروى  نافع بن جبير   أن رجلا قتل في الشهر الحرام في الحرم فقال  ابن عباس      : الدية اثنا عشر ألفا وأربعة آلاف تغليظا ، لأجل الحرم ، وأربعة آلاف للشهر الحرام     .  
وليس لقول هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مع انتشاره عنهم - لأن فيهم إمامين - مخالف ، فثبت أنه إجماع لا يجوز خلافه .  
فإن قيل يجوز أن يكون التغليظ الذي أجمعوا عليه هو في العمد المحض أو في عمد الخطأ فلا يكون فيه دليل على تغليظه بهذه الأسباب الثلاثة في الخطأ فعنه جوابان :  
أحدهما : أنهم قد نصوا على تغليظها بهذه الأسباب ، ولو كانت في عمد الخطأ لما تغلظت بها .  
والثاني : أنه حكم نقل مع سبب فاقتضى أن يكون محمولا عليه ، كما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سهى ، فسجد فكان محمولا على سجوده لأجل السهو ، ولأنه لما كانت هذه الأسباب الثلاثة مخصوصة بتغليظ الحرمة في القتل جاز أن يتغلظ بها حكم القتل .  
 [ ص: 219 ] أما الحرم فلقول الله تعالى :  ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه      [ البقرة : 191 ] .  
ولرواية  أبي سعيد المقبري   عن  أبي شريح الكعبي   أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم  مكة   ، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفك فيها دما ، ولا يعضدن فيها شجرا ، فإن رخص مترخص فقال إنها أحلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الله أحلها لي ساعة ، ثم هي حرام إلى أن تقوم الساعة ولأنه لما تغلظ بالحرم حرمة الصيد كان أولى أن تغلظ به نفوس الآدميين .  
وأما الأشهر الحرم فلقول الله تعالى :  إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم      [ التوبة : 136 ] .  
وقال تعالى :  يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير      [ البقرة : 217 ] . وقد كان القتال فيها محرما في صدر الإسلام لعظم حرمتها ، وأما ذو الرحم فلقول الله تعالى :  والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب      [ الرعد : 21 ] فقيل هي الرحم أمر الله بوصلها ويخشون ربهم في قطعها ، ويخافون سوء الحساب في المعاقبة عليها ، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع  أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة   من قتل أبيه يوم  بدر   ، وقال :  دعه يلي قتله غيرك  حتى قتله  حمزة بن عبد المطلب   ، ومنع  أبا بكر   من قتل ابنه  عبد الرحمن   يوم  أحد   ، وإذا كانت هذه الثلاثة مخصوصة بزيادة الحرمة وعظم المأثم في القتل جاز أن يختص بتغليظ الدية كالعمد وعمد الخطأ .  
ويدل عليه من طريق القياس : أنه قتل في الحرم فكان العمد والخطأ في قدر غرمه سواء كقتل الصيد .  
وأما الجواب عن عموم جواب  ابن مسعود   فتخصيصه بدليلنا .  
وأما قياسهم على الكفارة ، فالجواب عنه أنها لما لم تتغلظ بالعمد لم تتغلظ بهذه الأسباب ، والدية لما تغلظت بالعمد تغلظت بهذه الأسباب  
وأما قياسهم على العمد فالمعنى فيه أنه قد استوفى غاية التغليظ فلم يبق للتغليظ تأثير والخطأ بخلافه .  
وأما اعتبارهم  حرم مكة   بحرم المدينة   فقد اختلف أصحابنا فيه ، فمنهم من غلظ الدية فيها كتغليظها  بمكة   من قوله في القديم إن صيدها مضمون ، فعلى هذا يسقط الاستدلال .  
 [ ص: 220 ] وقال الأكثرون : لا تتغلظ الدية فيها وإن تغلظت بحرم  مكة   ، لأن حرم  مكة   أغلظ حرمة لاختصاصه بنسكي الحج والعمرة ، وتحريم الدخول إليه إلا بإحرام ، فلذلك تغلظت الدية فيه بخلاف  المدينة   ، وهكذا اختلف أصحابنا في تغليظ الدية بالقتل في الإحرام على هذين الوجهين .  
وأما اعتبارهم الأشهر الحرم بشهر رمضان فغير صحيح ، لأن حرمة شهر رمضان مختصة بالعبادة دون القتل ، وحرمة الأشهر الحرم مختصة بالقتل فلذلك تغلظت الدية بالأشهر الحرم ولم تتغلظ بشهر رمضان . 
وأما اعتبارهم ذا الرحم بذي النسب فلا يصح ، لأن حرمة الرحم أقوى لاختصاصها بالتوارث والنفقة .  
وأما اعتبار القتل بالزنا ، فالفرق بينهما : أن الزنا لما لم يختلف حكمه باختلاف الأعيان لم يختلف المكان والزمان ، ولما اختلف حكم القتل باختلاف الأعيان جاز أن يختلف بالمكان والزمان .  
وأما اعتبارهم نفوس الأحرار بنفوس العبيد والأموال .  
فالفرق بينهما : أنه لما لم يختلف في نفوس العبيد والأموال غرم العمد والخطأ لم يختلف بالزمان والمكان ، ولما اختلف في نفوس الأحرار غرم العمد والخطأ اختلف بالزمان والمكان والله أعلم .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					