الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " والذكاة وجهان أحدهما ما كان مقدورا عليه من إنسي أو وحشي لم يحل إلا بأن يذكى وما كان ممتنعا من وحشي أو إنسي فما قدرت به عليه من الرمي أو السلاح فهو به ذكي " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : والحيوان ضربان : مقدور عليه ، وممتنع .

                                                                                                                                            فأما المقدور عليه ، فلا تحل ذكاته إلا في الحلق واللبة : سواء كان أهليا أو وحشيا ، وأما الممتنع ، فضربان :

                                                                                                                                            أحدهما : وحشي كالصيد ، فعقره ذكاته في أي موضع أصبته ، وهو متفق عليه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أهلي ، كالنعم إذا توحش ، فمذهب الشافعي أن عقره في أي موضع أصبت من ذكاته ، كالصيد ، وبه قال من الصحابة علي ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر .

                                                                                                                                            ومن التابعين : الحسن ، وعطاء ، وطاوس .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ، وسفيان الثوري .

                                                                                                                                            [ ص: 27 ] وقال مالك : لا يحل إلا بالذكاة في الحلق واللبة .

                                                                                                                                            وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء ربيعة والليث بن سعد : استدلالا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : الذكاة في الحلق واللبة .

                                                                                                                                            ولأنه الأصل في الأهلي أنه يذكى ، ولا يفدى بالجزاء ، فلو جاز إذا توحش أن يتغير عن حكم أصله في الذكاة ، فيصير بعقره بعد أن كانت في حلقه ولبته لوجب أن يتغير حكمه في الجزاء ، فيفديه المحرم بعد أن لم يكن مفديا ، أو لصار الحمار الأهلي إذا توحش مأكولا ، فلما بقي على أصله في سقوط الجزاء وتحريم الأكل وجب بقاؤه على أصله في الذكاة .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما رواه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده رافع بن خديج أن بعيرا ند ، فرماه رجل بسهم ، فحبسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لهذه الإبل - أو قال : للنعم - أوابد كأوابد الوحش ، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا فكان في هذا الحديث دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن قوله : " فحبسه " أي : قتله : لما روي في خبر آخر : فحبسه الله أي : أماته .

                                                                                                                                            والثاني : قوله : " فاصنعوا هكذا " ولو لم يحل بالرمي لم يأمر به .

                                                                                                                                            لأنه حيوان ممتنع ، فجاز أن يكون عقره ذكاته ، كالوحش .

                                                                                                                                            ولأن ما صح به ذكاة الوحش جاز أن يصح به ذكاة الأهلي كالذبح .

                                                                                                                                            ولأنه اعتبر في ذكاة الأهل حكم أصله إذا توحش ، ولا يكون إلا في الحلق واللبة لوجب أن يعتبر في ذكاة الوحش حكم أصله إذا تأنس فيكون بعقره في غير الحلق واللبة ، وفي بطلان هذا في الوحش إذا تأنس دليل على بطلانه في الإنسي إذا توحش : اعتبارا بالامتناع والقدرة .

                                                                                                                                            فأما الخبر فوارد في المقدور عليه على ما سنورده في سببه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بالجزاء والأكل مع فساده بالوحشي إذا تأنس ، فهو أنهما يخالفان القدرة والامتناع في الزكاة : لأنهما حكمان لازمان لا ينتقلان ، والقدرة والامتناع يتعاقبان ، فيصير مقدورا عليه بعد أن كان ممتنعا ، وممتنعا بعد أن كان مقدورا عليه ، ولا يصير مأكولا بعد أن كان غير مأكول ، ولا غير مأكول بعد أن كان مأكولا ، فافترقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية