الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو كتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا فالورع أن يحنث ، ولا يبين ذلك لأن الرسول والكتاب غير الكلام ( قال المزني ) - رحمه الله - : هذا عندي به وبالحق أولى قال الله جل ثناؤه : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا إلى قوله : بكرة وعشيا فأفهمهم ما يقوم مقام الكلام ولم يتكلم ، وقد احتج الشافعي بأن الهجرة محرمة فوق ثلاث ، فلو كتب أو أرسل إليه ، وهو يقدر على كلامه لم يخرجه هذا من الهجرة التي يأثم بها ( قال المزني ) - رحمه الله - : فلو كان الكتاب كلاما لخرج به من الهجرة فتفهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا حلف لا يكلم فلانا ، فيكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا أو أشار إليه بيده أو رمز إليه بعين أو حاجب لم يحنث .

                                                                                                                                            وبه قال أبو حنيفة .

                                                                                                                                            وقال مالك : يحنث وذكره الشافعي في القديم ، فاختلف أصحابه فيه ، فجعله بعضهم قولا له ثانيا ، وتبعهم فيه أبو حامد الإسفراييني ، فخرج حنثه بذلك على قوليه وجعلوا كلام المزني دليلا عليهما واختيارا للصحيح منهما .

                                                                                                                                            وذهب جمهورهم إلى أنه ذكره حكاية عن غيره ، وليس بمذهب له ، فلا يحنث به قولا ، وجعلوا كلام المزني احتجاجا للشافعي ، وردا على مالك .

                                                                                                                                            واستدل مالك ومن تابعه على حنثه بالكتاب والرسول بقول الله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا [ الشورى : 51 ] . فجعل الوحي كلاما ، لاستثنائه منه ، وقال تعالى : آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ آل عمران : 41 ] . فجعل الرمز كلاما لاستثنائه منه ، ولأنه يقوم في الأفهام مقام الإفهام ، فصار في حكم الكلام .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما استدل به المزني من قول الله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 10 ، 11 ] . فدل على خروج الوحي والإشارة من الكلام الذي نهى عنه .

                                                                                                                                            وقال تعالى في قصة مريم : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا إلى قوله : فأشارت إليه ، [ مريم : 26 ، 27 ، 28 ، 29 ] . فدل على خروج الإشارة [ ص: 447 ] من الكلام الذي نهيت عنه ، ولأن كلامه مختص بجارحة لسانه ، وكلام الرسول بلسان غيره ، والكتاب من أفعال يده ، فصار كلامه مخالفا لرسالته ، وكتابه مخرجا عن حكم كلامه ، ولأن الأيمان محمولة على الأسامي دون المعاني والأسماء في ذلك مختلفة ، فوجب أن تكون في أحكام الأيمان مختلفة ، وإن استدل المزني بما حكاه عن الشافعي بأن الهجرة محرمة فوق ثلاث ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، والسابق أسبقهما إلى الجنة .

                                                                                                                                            قال : فلو كتب أو أرسل إليه ، وهو يقدر على كلامه لم يخرجه هذا من الهجرة التي أثم بها .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : - وهو قول أبي إسحاق المروزي - أنه على ظاهره ، أنه لا يخرج برسوله وكتابه عن مأثم الهجرة ، فيكون دليلا في المسألة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : - وهو قول أبي علي بن أبي هريرة - أنه يخرج من مأثم الهجرة كالكلام ، وإن لم يكن كلاما ، لأن مقصود الكلام في الهجرة نفي ما بينهما من الوحشة ، وعودهما إلى ما كانا عليه من الأنسة ، فقام ذلك مقام الكلام في الهجرة اعتبارا بالمعنى ولم يقم مقام الكلام في اليمين اعتبارا بالاسم ، لما ذكرنا من حمل الأيمان على الأسامي ، وحمل الأحكام على المعاني .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآيتين ، فهو من الاستثناء المنقطع بمعنى لكن ، فجاز أن يعود إلى غير جنسه ، كقوله تعالى : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ النساء : 29 ] معناه : لكن كلوه بتجارة .

                                                                                                                                            فأما الاستدلال فقد تقدم الانفصال عنه بأن الأيمان محمولة على الأسامي دون المعاني .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية