الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو قال بالله أو تالله فهي يمين نوى أو لم ينو " . وقال في الإملاء : " تالله يمين " وقال في القسامة ليست بيمين ( قال المزني ) رحمه الله : وقد حكى الله عز وجل يمين إبراهيم عليه السلام وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين .

                                                                                                                                            [ ص: 276 ] قال الماوردي : اعلم أن حروف القسم ثلاثة : الواو وهي أصلها ، ثم الياء ، ثم التاء ، فأما الواو فقوله : والله ، وهو الحرف الصريح في القسم ، فإذا قال : والله ، كان حالفا ، لا يرجع إلى إرادته في ظاهر ولا باطن ، ولا يلزمه حكم اليمين في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين ، وأما الباء المعجمة من تحت ، فقوله : بالله ، وفيها بعض الاحتمال ؛ لأنه مع غالب الأحوال في القسم يحتمل أن يريد : بالله أستعين وبالله أتقي ، وبالله أومن ، فإن أراد به القسم ، أو قال مطلقا كان يمينا في الظاهر والباطن في حقوق الله وحقوق الآدميين ، وإن لم يرد به القسم ، وأراد ما ذكرنا من احتماله دين في الباطن حملا على ما نواه ، ولم تلزمه الكفارة ، وكان حالفا في الظاهر ، اعتبارا بالغالب من حال الظاهر ، ولزمه حكم اليمين كما لو قال لزوجته : أنت طالق ، وأراد من وثاق دين في الباطن وكان طلاقا في الظاهر .

                                                                                                                                            وأما التاء المعجمة من فوق ، فقوله : تالله ، فمنصوص الشافعي في الأيمان والإيلاء أنها يمين ؛ لأن الشرع قد ورد بها ، قال الله تعالى : وتالله لأكيدن أصنامكم [ الأنبياء : 57 ] قالوا تالله لقد آثرك الله علينا [ يوسف : 91 ] . ونقل المزني عن الشافعي في القسامة : تالله ليست بيمين ، فاختلف أصحابنا في تخريج ما نقله في القسامة على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ليس بصحيح ، وقد وهم فيه ، وإنما قال الشافعي : " بالله " ليست بيمين ، بالباء معجمة من تحت ، وقد ذكر الشافعي في تعليله ما يدل على هذا ، فقال : لأنه دعاء ، فعلى هذا تكون تالله يمينا قولا واحدا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن نقل المزني صحيح ، لضبطه في نقله ، فعلى هذا اختلف أصحابنا مع صحة النقل في كيفية تخريجه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تخريج قول ثان ، فيكون على قولين لاختلاف النقل فيه .

                                                                                                                                            أحدهما : وهو مذهب أبي حنيفة أن يكون يمينا في المواضع كلها من غير أن تعتبر فيه إرادة : لأن عرف الشرع بها وارد : ولأن التاء في القسم بدل من الواو ، فقامت مقامها في الحكم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها ليست بيمين في المواضع كلها إلا أن يريدها يمينا ، فتصير بالإرادة يمينا لخروجها عن عرف الاستعمال والتباسها على أكثر الناس ، والأيمان مختصة بما كان في العرف مستعملا ، وعند عامة الناس مشتهرا ، فهذا وجه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي : أنها تكون يمينا في خواص الناس الذين يعرفون أن التاء من حروف القسم ولا تكون في العامة الذين لا يعرفون [ ص: 277 ] ذلك إلا بالإرادة والنية ، كما أن العربي إذا حلف بالأعجمية تكون يمينا إذ عرفها ، ولا تكون يمينا إن لم يعرفها ، وكذا الأعجمي إذا حلف بالعربية .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تكون يمينا في التغليظ عليه ، ولا تكون يمينا في التخفيف عنه ، فلا يجعلها يمينا في القسامة : لأنه يثبت بها لنفسه حقا ، ويجعلها يمينا في الإيلاء : لأنه يثبت بها على نفسه حقا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية