الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولو حلف لا يشتري فأمر غيره أو لا يطلق فجعل طلاقها إليها فطلقت ، أو لا يضرب عبده فأمر غيره فضربه ، لا يحنث ، إلا أن يكون نوى ذلك " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أنه لا يخلو حال من حلف لا يفعل شيئا فأمر غيره حتى فعله من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            [ ص: 377 ] أحدها : أن ينوي لا يفعله بنفسه ، فلا يحنث إذا أمر غيره بفعله ، لا يختلف المذهب فيه اعتبارا بنيته ، سواء جل قدر الحالف أو قل .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن ينوي أنه لا كان منه ما يقتضي ذلك الفعل ولا كان باعثا عليه فيحنث إذا أمر غيره بفعله كما يحنث إذا فعله بنفسه ؛ لأنه قد كان باعثا عليه سواء جل قدر الحالف أو قل .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن تكون يمينه مطلقة لم تقترن بها نية ، فينقسم ذلك الفعل المحلوف عليه ثلاثة أقسام .

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون العرف في فعله جاريا بالأمر دون المباشرة من جميع الناس ، كقوله : والله لا احتجمت ، ولا افتصدت ، ولا حلقت رأسي ، ولا بنيت داري ، فإذا أمر غيره بالحجامة وفصده وحلق رأسه ، وبنى داره حنث سواء جل قدر الحالف أو قل ؛ لأنه لم يجر في العرف من قليل أو جليل أن يباشر فعلها في نفسه إلا بأمره ، فصار العرف فيه شرطا يصرف حقيقة الفعل إلى مجازه فيصير اعتبار المجاز إذا اقترن بالعرف أولى من اعتبار الحقيقة إذا فارق العرف : لأن العرف ناقل .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون العرف في فعله جاريا بمباشرته دون أمره من جميع الناس كقوله : والله لا كتبت ، ولا قرأت ولا حججت ، ولا اعتمرت فإذا أمر غيره بالكتابة والقراءة والحج والعمرة لم يحنث سواء جل قدر الحالف أو قل ؛ لأن العرف جار بين الناس بمباشرة ذلك من كل قليل وجليل ، فصار العرف مقترنا بالحقيقة دون المجاز فخرج مجازه عن حكمه .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون العرف مختلفا في مباشرة فعله فيباشره من دنا ، ولا يباشره من علا ، فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يقترن بعرف الاستعمال في الاختلاف بينهما عرف الشرع ، وهو إقامة الحدود التي لا يقيمها في الشرع والعرف إلا أولو الأمر من ذي ولاية وسلطان ، فيحنث الآمر بها إن كان من أولي الأمر وإن لم يباشرها ، كما قيل : جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - زانيا ، ورجم ماعزا وقطع سارقا ، ولا يحنث بها غير أولي الأمر حتى يباشرها بفعله ؛ لأنه غير نافذ الأمر فيهما .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن ينفرد الاختلاف بينهما بعرف الاستعمال دون عرف الشرع ، فيباشره من دنا ، ولا يباشره من علا تنزها وتصونا كعقود البيوع والأشربة وتأديب العبيد والخدم ، فينقسم حال الحالف والمحلوف عليه ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون عرف الحالف جاريا بمباشرته ، كرجل من عوام السوقة حلف [ ص: 378 ] لا باع ولا اشترى ، ولا تزوج ولا طلق ، ولا ضرب عبدا ، ولا أدب خادما ، فإذا أمر غيره بأن باع له واشترى ، وزوجه وطلق عنه ، وضرب عبده وأدب خادمه ، لم يحنث في هذا كله . وقال مالك : يحنث في هذا كله ، وقال أبو حنيفة : إن كان هذا العقد مما إذا باشره الوكيل أضافه إلى نفسه كالشرى ، يقول : اشتريت هذه الدار لموكلي لم يحنث الموكل ، وإن كان مما لا يضيفه إلى نفسه كالنكاح يقول : قبلت هذا النكاح لموكلي ، ولا يقول : نكحت لموكلي ، كما يقول : اشتريت لموكلي حنث الموكل ، وكلا المذهبين مدخول ، والصحيح أن جميعها سواء في أنه لا يحنث الآمر بها والموكل فيها إذا كان العرف بمباشرته لها جاريا ؛ لأن الأيمان تحمل على حقائق الأسماء والأفعال ، ما لم ينقلها عرف الحقيقة في هذه الأفعال بمباشرتها ، والعرف مقترن بها ، فلم يجز أن يعدل في الأمر بها عن الحقيقة والعرف إلى مجاز تجرد عن العرف ، فعلى هذا لو حلف على امرأته أنه لا يطلقها ، فرد إليها الطلاق ، فطلقت نفسها لم يحنث ؛ لأنه لا يكون مطلقا ، وإنما يكون مخيرا في الطلاق ، ولو قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلتها طلقت وحنث ؛ لأنه مطلق لها على صفة وقعت منها فلذلك افترقا .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون عرف الحالف جاريا بالاستنابة دون مباشرته ، وإن باشره استنكرته النفوس منه ، كالسلطان أو من قاربه في رتبته إذا حلف ، لا باع ولا اشترى ، ولا ضرب عبدا ، ولا أدب خادما ، فإذا وكل في البيع والشراء وأمر بضرب عبده وبأدب خادمه ففي حنثه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : تفرد الربيع بنقله وتفرد به بعض أصحاب الشافعي ، أنه يحنث اعتبارا بالعرف ؛ لأن العرف قد صار مقترنا بالمجاز دون الحقيقة ، والعرف ناقل ، كما لو حلف : لا أكلت رءوسا ، لم يحنث برءوس الطير والجراد ، وإن وجد حقيقة الاسم فيها ؛ لأن العرف لما اختص برءوس الغنم نقل عما عداها حقيقة الاسم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو الأظهر ، وما عليه الأكثرون من أصحابنا أنه لا يحنث ؛ لأن الحقيقة فيها المباشرة لها دون الأمر بها ، والحقيقة لا تنقل إلا بعرف عام ، كما قيل في الرءوس ، وهذا عرف خاص ، فلم يجز أن ينتقل به الحقيقة ، كما لو حلف سلطان : لا أكلت خبزا ولا لبست ثوبا ، فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم تجر عادته بأكل الذرة ولبس العباءة ؛ لأنه عرف خاص وليس بعام ، فلذلك ساوى فيه عرف العموم فكذلك في هذه العقود .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون عرف الحالف جاريا بالاستنابة فيه ، لكن إن باشره لم تستنكره النفوس منه ، ولا تستقبحه ، كالنكاح والطلاق والعتاق ، لا يستقبح من السلطان أن يباشره بنفسه ، فإذا حلف سلطان لا نكح ولا طلق ، ولا أعتق ، فوكل في [ ص: 379 ] النكاح والطلاق والعتاق ، فقد اختلف أصحابنا هل يعتبر حكم عرفه أو يعتبر ما لا تستنكره النفوس من فعله ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يعتبر حكم عرفه ؛ لأنه أخص به ، فعلى هذا في حنثه قولان .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يعتبر ما لا تستنكره النفوس من فعله ؛ لأنه أعم ، فعلى هذا لا يحنث قولا واحدا ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية