الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - تعالى : " وإذا رمى أو أرسل كلبه على الصيد فوجده قتيلا فالخبر عن ابن عباس ، والقياس أن لا يأكله لأنه يمكن أن يكون قتله غيره ، وقال ابن عباس : كل ما أصميت ودع ما أنميت وما أصميت وأنت تراه وما أنميت ما غاب عنك فقتله إلا أن يبلغ منه مبلغ الذبح ، فلا يضره ما حدث بعده " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها أن يرمي صيدا بسهم أو يرسل عليه كلبا ، فيغيب الصيد عنه ، ثم يجده ميتا ، فهذا على ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون السهم أو الكلب قبل مغيب الصيد قد بلغ منه مبلغ الذبح ، وهو يراه ثم تحامل الصيد بضعف الحياة حتى غاب عنه ، ثم وجده ميتا ، فهذا مأكول : لأنه قد صار مذكى عند مشاهدته ، فلم يحرم ما حدث بعده .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يغيب الصيد قبل أن يقع فيه السهم ، وقبل أن يجرحه الكلب ، ثم يجده بعد غيبته مجروحا ميتا ، فهو حرام لا يؤكل سواء كان السهم واقعا فيه ، والكلب واقعا عليه ، أو لا : لأنه قد يجوز أن يشارك عقر الكلب في قتله جراحة سبع أو لسعة أفعى ، ويغرب فيه سهم إنسان آخر ، فلما احتمل هذا وغيره وجب أن يكون محرما : لأنه على أصل الحظر .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يقع فيه السهم ويجرحه الكلب ، وهو يراه ، ويغيب عنه ، وهو قوي الحياة ، ثم يجده ميتا ، فهي مسألة الكتاب .

                                                                                                                                            والذي نص عليه الشافعي ، ونقله المزني أنه لا يؤكل للخبر عن ابن عباس ، والقياس .

                                                                                                                                            وقال في كتاب " الأم " : لا يؤكل إلا أن يكون قد ورد فيه خبر ، فيسقط حكما خالفه ، ولا يقوم له رأي ، ولا قياس ، وقد ورد فيه خبر ، وهو ما روي أن أبا ثعلبة الخشني قال : يا رسول الله إني أرمي الصيد ، وأجده ميتا ، فقال : كله ما لم تر فيه أثر غيرك وروي أن عدي بن حاتم قال : يا رسول الله إني أرمي الصيد ، فأقتفي أثره اليوم والثلاثة ، وأجده ميتا ، فقال : كله ما لم ينتن ، وروي : ما لم يصل : أي لم يتغير ، وهذان الخبران قد وردا من طريق ضعيف ، فإن لم يصح واحد منهما ، والحكم فيه ما نص عليه أنه غير مأكول ، وإن صح هذان الخبران أو أحدهما ، فهو مأكول ، واختلف أصحابنا في صحته ، فذهب أكثر البصريين إلى أنه ليس بصحيح ، ولا ثابت ، وأن المسألة على قول واحد أنه غير مأكول .

                                                                                                                                            [ ص: 16 ] وذهب أبو العباس بن سريج وأكثر البغداديين إلى أنه قد صح ، وثبت ، وأن في إباحة أكله قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو منصوص عليه أنه غير مأكول .

                                                                                                                                            والثاني : وهو الموقوف على صحته الخبر أنه مأكول .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : إن كان مقيما على اتباعه وطلبه حتى وجده ميتا أكل ، وإن تركه وتشاغل عنه ، ثم وجده ميتا لم يؤكل : لأنه ما دام على طلبه يصل إلى ذكاته مع القدرة ، ولا يصل إليها مع الترك .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن وجده في يومه أكل ، وإن وجده بعد انقضاء يومه لم يؤكل ، وفيما نكره من توجيه القولين دليل عليهما في مخالفة القولين ، فإذا قلنا بالأول إنه غير مأكول ، وهو الأظهر فوجهه ما رواه عكرمة أن رجلا أتى ابن عباس ، فقال له : إني أرمي ، فأصمي وأنمي ، فقال له ابن عباس : " كل ما أصميت ، ودع ما أنميت " يريد بما أصمى ما قتله ، وهو يراه ، وبما أنمى ما غاب عنه ، فلم يره حتى نمى إليه ، خبر موته ، ولأنه لما احتمل مع الغيبة أن يكون موته من عقره ، فيحل ، وأن يكون بغيره من الأسباب ، فيحرم وجب أن يغلب حكم التحريم .

                                                                                                                                            وإذا قلنا في الثاني : إنه مأكول ، فوجهته مع الخبرين ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحشي عقير فيه سهم قد مات ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوه حتى يأتي صاحبه ، فجاء رجل من فهر ، فقال : هي رميتي يا رسول الله ، فكلوه ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق ، وهم محرمون ، فدل على أن ما غاب لم يحرم : ولأن حكم عقره بالسهم ، والكلب ثابت ، فلم يجز العدول عنه : بتجويز غيره ، كما لو جرح حيوانا فمات قبل اندمال جرحه ، كان ضامنا لقيمته ، وإن جاز أن يموت بغيره ، وكذلك لو جرح إنسانا فمات كان مأخوذا بالقود ، وإن جاز أن يحدث بعد جرحه سبب يموت به إثباتا لحكم النفي . وإسقاطا لحكم الشك ، كذلك حكم الصيد يجب أن يكون منسوبا إلى عقره المتحقق دون ما يطرأ من شك يجوز .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية