الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإذا كان المسجد [ ص: 318 ] للعشيرة فعلق رجل منهم فيه قنديلا أو جعل فيه بواري أو حصاة فعطب به رجل لم يضمن ، وإن كان الذي فعل ذلك من غير العشيرة ضمن ) قالوا : هذا عند أبي حنيفة ، وقالا : لا يضمن في الوجهين جميعا ، لأن هذه من القرب وكل أحد مأذون في إقامتها فلا يتقيد بشرط السلامة ، كما إذا فعله بإذن واحد من أهل المسجد . ولأبي حنيفة وهو الفرق أن التدبير فيما يتعلق بالمسجد لأهله دون غيرهم كنصب الإمام واختيار المتولي وفتح بابه وإغلاقه وتكرار الجماعة إذا سبقهم بها غير أهله فكان فعلهم مباحا مطلقا غير مقيد بشرط السلامة وفعل غيرهم تعديا أو مباحا مقيدا بشرط السلامة ، وقصد القربة لا ينافي الغرامة إذا أخطأ الطريق كما إذا تفرد بالشهادة على الزنا والطريق فيما نحن فيه الاستئذان من أهله . قال : ( وإن جلس فيه رجل منهم فعطب به رجل لم يضمن إن كان في الصلاة ، وإن كان في غير الصلاة ضمن ) وهذا عند أبي حنيفة ، وقالا : لا يضمن على كل حال .

[ ص: 319 ] ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم أو للصلاة أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث فهو على هذا الاختلاف ، وأما المعتكف فقد قيل على هذا الاختلاف ، وقيل لا يضمن [ ص: 320 ] بالاتفاق . لهما أن المسجد إنما بني للصلاة والذكر ولا يمكنه أداء الصلاة بالجماعة إلا بانتظارها فكان الجلوس فيه مباحا لأنه من ضرورات الصلاة ، أو لأن المنتظر للصلاة في الصلاة حكما بالحديث فلا يضمن كما إذا كان في الصلاة .

وله أن المسجد إنما بني للصلاة ، وهذه الأشياء ملحقة بها فلا بد من إظهار التفاوت فجعلنا الجلوس للأصل مباحا مطلقا والجلوس لما يلحق به مباحا مقيدا بشرط السلامة ولا غرو أن يكون الفعل مباحا أو مندوبا إليه وهو مقيد بشرط السلامة كالرمي إلى الكافر أو إلى الصيد والمشي في الطريق والمشي في المسجد إذا وطئ غيره والنوم فيه إذا انقلب على غيره ( وإن جلس رجل من غير العشيرة فيه للصلاة فتعقل به إنسان ينبغي أن لا يضمن ) لأن المسجد بني للصلاة وأمر الصلاة بالجماعة إن كان مفوضا إلى أهل المسجد فلكل واحد من المسلمين أن يصلي فيه وحده . .

[ ص: 321 ]

التالي السابق


[ ص: 321 ] ( فصل في الحائط المائل )

( قوله وقالا : لا يضمن في الوجهين جميعا ) أي فيما إذا فعل ذلك أحد من العشيرة ، وفيما إذا فعله أحد من غير العشيرة . قال صاحب معراج الدراية : قوله وقالا : لا يضمن في الوجهين وهما إذن الإمام أو العشيرة أو عدم إذنهما ، وتبعه الشارح العيني .

أقول : تفسير الوجهين هنا بما ذكره ذلك الشارحان لا يطابق المشروح كما [ ص: 319 ] لا يخفى على ذي مسكة ( قوله ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم أو للصلاة أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث فهو على هذا الاختلاف ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم : أي تعليم الفقه أو الحديث أو للصلاة : يعني منتظرا لها أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث قال المصنف : فهو على هذا الاختلاف ، وهو اختيار بعض أصحابنا ، واختاره أبو بكر الرازي ، وقال بعضهم ، وهو اختيار أبي عبد الله الجرجاني : ليس فيها خلاف ، بل لا ضمان فيه بالاتفاق انتهى . أقول : في تقريره خلل ، فإن الاختلاف بين أصحابنا ، واختيار أبي بكر الرازي قول بعضهم وأبي عبد الله الجرجاني قول البعض الآخر إنما هو فيما إذا قعد للعبادة بأن كان ينتظر الصلاة أو قعد للتدريس وتعليم الفقه أو الاعتكاف أو قعد يذكر الله أو يسبحه أو يقرأ القرآن فعثر به إنسان فمات ، وأما فيما إذا قعد لحديث أو نام فيه أو أقام فيه لغير الصلاة أو مر فيه مارا فعثر به إنسان فمات ففيه اختلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه بلا خلاف لأحد من أصحابنا على ما بين ، وفصل في الذخيرة والمحيط البرهاني وذكر في النهاية أيضا نقلا عن الذخيرة ، ولا ريب أن ما ذكره المصنف هنا من الصور فقال : فهو على هذا الاختلاف يشمل القسمين فكيف يتم قول صاحب العناية على الإطلاق وهو اختيار بعض أصحابنا إلى آخر كلامه .

ثم قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : في عبارة الكتاب تكرار ، لأنه قال : وإن كان في غير الصلاة ضمن وغير الصلاة يشمل هذا المذكور كله . والجواب أن قوله وإن كان في غير الصلاة ضمن لفظ الجامع الصغير ، وقوله ولو كان جالسا لقراءة القرآن من لفظ المصنف بيان لذلك انتهى . أقول : في كل واحد من سؤاله وجوابه سقامة . أما في الأول فلأن وضع المسألة فيما قال وإن كان في غير الصلاة إنما كان في الجلوس في المسجد فكيف يشمل قوله وإن كان في غير الصلاة ضمن هذا المذكور كله ، ومنه ما ليس من جنس الجلوس كالنوم فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة والمرور فيه مارا . وأما في الثاني فلأن لفظ الجامع الصغير مختص بالجلوس في المسجد ، ولفظ المصنف شامل للجلوس وغيره كما عرفت آنفا فكيف يكون هذا بيانا لذاك .

ثم قال : وقوله فهو على هذا [ ص: 320 ] الاختلاف يفيد اتفاق المشايخ على ذلك وليس كذلك ، بل هو على الاختلاف كما رأيت . أقول : لا نسلم أنه يفيد اتفاق المشايخ على ذلك لجواز أن يكون مختار المصنف أيضا ما اختاره أبو بكر الرازي ، فبناء على ذلك لم يذكر القول الآخر ، ومثل هذا ليس بعزيز في كلمات المشايخ . ثم قال : وكان من حق الكلام أن يقول : فقد قيل على هذا الاختلاف ، وقيل لا يضمن بلا خلاف كما قال في الاعتكاف انتهى . أقول : لعل سر أن المصنف لم يقل هكذا هو أن ما ذكره من الصور مشتمل على ما ليس من جنس العبادة أيضا ، ولم يقل أحد بأنه لا يضمن في هذا القسم بلا خلاف كما بيناه فيما قبل ، فلو قال المصنف مثل ما زعمه صاحب العناية حق الكلام لاختل كلامه كاختلال كلام ذلك الشارح في شرحه كما مر حيث يلزم أن يدرج في اختلاف المشايخ محل الوفاق أيضا فقال : وهو على هذا الاختلاف بالبتات جريا على اتفاقهم على وقوع الاختلاف فيما هو من غير جنس العبادة واختيارا لما اختاره أبو بكر الرازي فيما هو من جنس العبادة تأمل ، فإن هذا معنى لطيف وتوجيه حسن ( قوله لهما أن المسجد إنما بني للصلاة والذكر ولا يمكنه أداء الصلاة بالجماعة إلا بانتظارها فكان الجلوس مباحا إلخ ) .

أقول : هذا التعليل قاصر عن إفادة مدعاهما في بعض من المسائل المذكورة كالنوم في المسجد والمرور فيه والقعود فيه لحديث : فإن شيئا منها ليس من الصلاة ولا من الذكر ولا من ضرورات الصلاة ولا من الانتظار للصلاة فلا يتم التقريب . .




الخدمات العلمية