الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في مسائل تتعلق بالرجوع

                                                                                                                                                                        إحداها : ضمن عشرة ، وأدى خمسة ، وأبرأه رب المال عن الباقي ، لم يرجع إلا بالخمسة المغرومة ، وتبقى الخمسة الأخرى على الأصيل . ولو صالحه من العشرة على خمسة ، لم يرجع إلا بالخمسة أيضا ، لكن يبرأ الضامن والأصيل عن الباقي .

                                                                                                                                                                        الثانية : ضمن ذمي لذمي دينا على مسلم ، ثم تصالحا على خمر ، فهل يبرأ المسلم لأن المصالحة بين ذميين ، أم لا ، كما لو دفع الخمر بنفسه ؟ وجهان . فإن قلنا بالأول ، ففي رجوع الضامن على المسلم ، وجهان ؛ لأن ما أدي ليس بمال ، إلا أنه أسقط الدين .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح : لا يبرأ ، ولا يرجع . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        الثالثة : ضمن عن الضامن آخر ، وأدى الثاني ، فرجوعه على الأول ، كرجوع الأول على الأصيل ، فيراعى الإذن وعدمه . وإذا لم يثبت له الرجوع على الأول لم يثبت بأدائه للأول الرجوع على الأصيل إذا وجد شرطه فلو أراد الثاني أن يرجع على الأصيل ، ويترك الأول ، نظر ، إن كان الأصيل قال له : اضمن عن ضامني ، ففي رجوعه عليه ، وجهان . كما لو قال لإنسان : أد ديني وليس كما لو قال : أد دين فلان ، حيث لا يرجع قطعا على الآمر ؛ لأن الحق لم يتعلق بذمته . وإن لم يقل له : اضمن عن ضامني ، فإن كان الحال لا يقتضي رجوع الأول على الأصيل ، لم يرجع [ ص: 269 ] الثاني عليه . وإن اقتضاه ، فكذلك على الأصح ؛ لأنه لم يضمن عن الأصيل . ولو أن الثاني ضمن عن الأصيل أيضا ، فلا رجوع لأحد الضامنين على الآخر ، وإنما الرجوع للمؤدي على الأصيل . ولو ضمن عن الأول والأصيل معا ، فأدى ، فله أن يرجع على أيهما شاء ، وأن يرجع على هذا بالبعض ، وعلى ذاك بالبعض ، ثم للأول الرجوع على الأصيل بما غرم بشرطه .

                                                                                                                                                                        الرابعة : على زيد عشرة ، ضمنها اثنان ، كل واحد خمسة ، وضمن كل واحد عن الآخر ، فلرب المال مطالبة كل واحد منهما بالعشرة ، نصفها عن الأصيل ، ونصفها عن الآخر ، فإن أدى أحدهما العشرة ، رجع بالنصف على الأصيل ، وبالنصف على صاحبه . وهل له الرجوع بالجميع على الأصيل إذا كان لصاحبه الرجوع عليه لو غرم ؟ فيه الوجهان . وإن لم يؤد إلا خمسة ، نظر ، هل أداها عن الأصيل ، أو عن صاحبه ، أو عنهما ؟ ويثبت الرجوع بحسبه .

                                                                                                                                                                        الخامسة : ضمن الثمن ، فهلك المبيع له أو وجد به عيبا فرده ، أو ضمن الصداق ، فارتدت المرأة قبل الدخول ، أو فسخت بعيب ، نظر ، إن كان ذلك قبل أن يؤدي الضامن ، برئ الضامن والأصيل . وإن كان بعده ، فإن كان بحيث يثبت الرجوع ، رجع بالمغروم على الأصيل ، وضمن رب الدين للأصيل ما أخذ إن كان هالكا . وإن كان باقيا ، رده بعينه . وهل له إمساكه ورد بدله ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا رد المبيع بعيب وعين دراهمه عند البائع ، فأراد إمساكها ورد مثلها ، والأصح : المنع . وإنما يغرم للأصيل دون الضامن ؛ لأن في ضمن الأداء عنه إقراضه وتمليكه إياه . وإن كان بحيث لا يثبت للضامن الرجوع ، فلا شيء له على الأصيل ، ويلزم المضمون له رد ما أخذ . وعلى من يرد ؟ فيه الخلاف فيمن تبرع بالصداق وطلق الزوج قبل الدخول ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        السادسة : أدى الضامن الدين ، ثم وهبه رب الدين له ، ففي رجوعه على الأصيل ، وجهان بناء على القولين فيما لو وهبت الصداق للزوج ، ثم طلقها قبل الدخول .

                                                                                                                                                                        [ ص: 270 ] قلت : الأصح : الرجوع . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        السابعة : لرجل على رجلين عشرة ، وضمن كل واحد ما على الآخر ، فلرب الدين أن يطالبهما ، ومن شاء منهما بالعشرة ، فإن أداها أحدهما ، برئا جميعا ، وللمؤدي الرجوع بخمسة على صاحبه إن وجد شرط الرجوع . وإن أدى كل واحد خمسة عما عليه ، فلا رجوع . وإن أدى عن الآخر ، جاء خلاف التقاص . وإن أدى أحدهما خمسة ، ولم يؤد الآخر شيئا ، فإن أداها عن نفسه ، برئ مما عليه ، وبقي على صاحبه ما كان عليه والمؤدي ضامن له . وإن أداها عن صاحبه ، رجع بها عليه ، وبقي عليه ، ما كان عليه ، وصاحبه ضامن له . وإن أداها عنهما ، فلكل نصف حكمه . وإن أدى ولم يقصد شيئا ، فهل يقسط عليهما ؟ أو يقال : اصرف إلى ما شئت ؟ وجهان سبق نظيرهما في آخر الرهن . ومن فوائدهما ، أن يكون بنصيب أحدهما رهن . فإن قلنا : له صرفه ، فصرفه إلى ما به الرهن ، انفك ، وإلا ، فلا . ولو قال المؤدي : أديت عما علي ، فقال القابض : بل عن صاحبك ، صدق المؤدي بيمينه . فإذا حلف ، برئ مما عليه ، لكن لرب الدين مطالبته بخمسة على الصحيح ؛ لأن عليه خمسة أخرى ، إما بالأصالة ، وإما بالضمان . وفي وجه : لا مطالبة له ؛ لأنه إن طالبه عن الأصالة ، فالشرع يصدق المؤدي في البراءة منها . وإن طالبه بالضمان ، فرب الدين معترف بأنه أدى عنه . وإن أبرأ رب الدين أحدهما عن جميع العشرة ، برئ أصلا وضمانا ، وبرئ الآخر من الضمان دون الأصل . وإن أبرأ أحدهما عن خمسة ، نظر ، إن أبرأ عن الأصل ، برئ عنه ، وبرئ صاحبه عن ضمانه وهي عليه ضمانة ما على صاحبه . وإن أبرأه عن الضمان وبرئ عنه ، وبقي عليه الأصيل ، وبقي على صاحبه الأصل والضمان وإن أبرأه عن الخمسة من الجهتين جميعا ، سقط عنه نصف الأصل ونصف الضمان ، وعن صاحبه نصف الضمان ( وبقي عليه الأصل ، [ ص: 271 ] ونصف الضمان ) ، فيطالبه بسبعة ونصف ، ويطالب المبرأ بخمسة . وإن لم ينو عند الإبراء شيئا ، فهل يحمل على النصف ، أم يخير ليصرف إلى ما شاء ؟ فيه الوجهان . ولو قال : أبرأت عن الضمان ، فقال المبرأ : بل عن الأصل ، فالقول قول المبرئ .

                                                                                                                                                                        الثامنة : ادعى أن له على زيد وعلى غائب ألفا باعهما به عبدا قبضاه ، أو عن جهة أخرى ، وأن كل واحد منهما ضمن ما على الآخر وأقام بذلك بينة ، فأخذ الألف من زيد ، نص أنه يرجع على الغائب بنصف الألف . قال الجمهور هذا إذا لم يكن وجد من زيد تكذيب للبينة . فإن كان ، لم يرجع ؛ لأنه مظلوم بزعمه ، فلا يطالب غير ظالمه ، وهذا هو الأصح . وقال ابن خيران : يرجع وإن صرح بالتكذيب ؛ لأن البينة أبطلت حكم إنكاره .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        جميع ما سبق من رجوع المأذون له في الأداء ، والضامن على الأصيل ، مفروض فيما إذا أشهد على الأداء رجلين أو رجلا وامرأتين . فلو أشهد واحدا اعتمادا على أنه يحلف معه ، أو أشهد مستورين ، فبانا فاسقين ، كفى ذلك على الأصح . ولا يكفي إشهاد من يعلم سفره عن قرب ؛ لأنه لا يفضي إلى المقصود . أما إذا أدى بلا إشهاد ، وأنكر رب المال ، فإن أدى في غيبة الأصيل ، فمقصر ، فلا يرجع إن كذبه الأصيل قطعا ، وكذا إن صدقه على الأصح . وهل يحلف الأصيل إذا كذبه ؟ قال في " التتمة " : يبنى على أنه لو صدقه ، هل يرجع عليه ؟ إن قلنا : نعم ، حلفه على نفي العلم بالأداء ، وإلا بني على أن النكول ورد اليمين ، كالإقرار ، أم كالبينة ؟ إن قلنا : كالإقرار ، لم يحلفه لأن غايته أن ينكل فيحلف الضامن ، فيكون كتصديقه ، [ ص: 272 ] وذلك لا يفيد الرجوع . وإن قلنا : كالبينة ، حلفه طمعا في أن ينكل ، ويحلف ، فيكون كالبينة . ولو كذبه الأصيل وصدقه رب المال ، رجع على الأصح ، لسقوط المطالبة ، فإنه أقوى من البينة . وأما إذا أدى بحضور الأصيل ، فيرجع على الصحيح المنصوص . ولو توافق الأصيل والضامن على أنه أشهد ، ولكن مات الشهود أو غابوا ، ثبت الرجوع على الصحيح . وقيل : لا ، وهو شاذ ضعيف . ولو قال الضامن : أشهدت وماتوا ، وأنكر الأصيل الإشهاد ، فهل القول قول الأصيل ؛ لأن الأصل عدم الإشهاد ، أو قول الضامن ؛ لأن الأصل عدم التقصير ؟ وجهان . أصحهما : الأول . ولو قال : أشهدت فلانا وفلانا ، فكذباه ، فهو كما لو لم يشهد . ولو قالا : لا ندري وربما نسينا ، ففيه تردد للإمام . ومتى لم تقم بينة بالأداء ، وحلف رب المال ، بقيت مطالبته بحالها . فإن أخذ المال من الأصيل ، فذاك . وإن أخذ من الكفيل مرة أخرى ، فقيل : لا يرجع بشيء ، والأصح : أنه يرجع . وهل يرجع بالمغروم أولا لأنه مظلوم بالثاني ، أم بالثاني لأنه المسقط للمطالبة ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : ينبغي أن يرجع بأقلهما . فإن كان الأول ، فهو يزعم أنه مظلوم بالثاني . وإن كان الثاني ، فهو المبرئ ، ولأن الأصل براءة ذمة الأصيل من الزائد . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية