الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإذا قدم الكوفي بعمرة في أشهر الحج ، وفرغ منها وحلق أو قصر ثم اتخذ مكة أو البصرة دارا وحج من عامه ذلك فهو متمتع ) أما الأول فلأنه ترفق بنسكين في سفر واحد في أشهر الحج . وأما الثاني فقيل هو بالاتفاق . وقيل هو قول أبي حنيفة رحمه الله . وعندهما لا يكون [ ص: 20 ] متمتعا ; لأن المتمتع من تكون عمرته ميقاتية وحجته مكية ونسكاه هذان ميقاتيان . وله أن السفرة الأولى قائمة ما لم يعد إلى وطنه ، وقد اجتمع له نسكان فيها فوجب دم التمتع ( فإن قدم بعمرة فأفسدها وفرغ منها وقصر ثم اتخذ البصرة دارا ثم اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا عند أبي حنيفة ) رحمه الله ( وقالا : هو متمتع ) ; لأنه إنشاء سفر وقد ترفق فيه بنسكين .

وله أنه باق على سفره ما لم يرجع إلى وطنه ( فإن كان رجع إلى أهله ثم اعتمر في أشهر الحج ، وحج من عامه يكون متمتعا في قولهم جميعا ) ; لأن هذا إنشاء سفر لانتهاء السفر الأول ، وقد اجتمع له نسكان صحيحان فيه ، ولو بقي بمكة ولم يخرج إلى البصرة حتى اعتمر في أشهر الحج وحج من عامه لا يكون متمتعا بالاتفاق ; لأن عمرته مكية والسفر الأول انتهى بالعمرة الفاسدة ولا تمتع لأهل مكة .

التالي السابق


( قوله : أما الأول ) وهو ما إذا اتخذ مكة دارا حتى صار متمتعا بالاتفاق ( وأما الثاني ) وهو ما إذا اتخذ البصرة دارا ( فقيل هو بالاتفاق ) كالأول ، قاله الجصاص ; لأنه ذكره في الجامع الصغير من غير خلاف ( وقيل هو قول أبي حنيفة ) [ ص: 20 ] وفي قولهما لا يكون متمتعا ، قاله الطحاوي . والمسألة التي تأتي بعد هذه وهي ما إذا أفسد العمرة ترجح قول الطحاوي ، ومبنى الخلاف فيها على أن سفره الأول انتقض بقصد البصرة والنزول بها ونحوها كالطائف وغيره مما هو خارج المواقيت أو لا ، فعندهما نعم ، فلا يكون متمتعا في الأولى ; لأنه لم يترفق بالنسكين في سفرة ويكون متمتعا في الثانية ، وهي ما إذا أفسد العمرة ثم اتخذ البصرة دارا ثم قدم بعمرة قضاء وحج من عامه ; لأن ذلك السفر انتهى بالفاسدة ، وهذا سفر آخر حصل فيه نسكين صحيحين .

وعنده لا فيكون متمتعا في الأولى لحصولهما صحيحين في سفرة ولا يكون متمتعا في الثانية ; لأنه لم يحصلهما صحيحين في السفرة الواحدة ، وتقييدهم بكونه اتخذ [ ص: 21 ] البصرة ونحوها دارا اتفاقي ، بل لا فرق بين أن يتخذها دارا أو لا ، صرح به في البدائع فقال : فأما إذا عاد إلى غير أهله بأن خرج من الميقات ولحق بموضع لأهله القران والتمتع كالبصرة مثلا واتخذ هناك دارا أو لم يتخذ توطن بها أو لم يتوطن إلخ ، وإذا رجعت إلى ما سمعت من قريب من أن من وصل إلى مكان كان حكمه حكم أهله إذا كان قصده إليه زال الريب .

[ فروع ] لو عاد إلى أهله بعدما طاف لعمرته قبل أن يحلق ثم حج من عامه فهو متمتع ; لأن العود مستحق عليه عند من جعل الحرم شرط جواز الحلق وهو أبو حنيفة ومحمد رحمه الله تعالى وعند أبي يوسف رحمه الله إن لم يكن مستحقا فهو مستحب كذا في البدائع . وذكر بعده بنحو ورقتين فيمن اعتمر في أشهر الحج فقال : وإن رجع إلى أهله بعدما طاف أكثر طواف العمرة أو كله ولم يحل وألم بأهله محرما ثم عاد وأتم عمرته وحج من عامه فهو متمتع في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد . له أنه أدى العمرة بسفرتين وأكثرها حصل في السفر الأول وهذا يمنع التمتع . ولهما أن إلمامه لم يصح بدليل أنه يباح له العود بذلك الإحرام لا بإحرام جديد فصار كأنه أقام بمكة . ولو عاد بعدما طاف ثلاثة أشواط ثم رجع فأتمها وحج من عامه كان متمتعا .

ولو أفسد العمرة ومضى فيها حتى أتمها ثم رجع إلى أهله ثم عاد وقضاها وحج من عامه فهو متمتع ; لأنه لما لحق بأهله صار من أهل التمتع ، وقد أتى به . ولو أنه لما فرغ من الفاسدة لم يخرج أو لم يجاوز الميقات حتى قضى عمرته وحج لا يكون متمتعا ; لأنه حينئذ كواحد من أهل مكة ، حتى لو حج من عامه كان مسيئا وعليه لإساءته دم . ولو خرج بعد إتمام الفاسدة إلى خارج المواقيت كالطائف ونحوه مما لأهله المتعة ثم رجع فقضى عمرته الفاسدة وحج من عامه فهو على الخلاف . عنده ليس بمتمتع [ ص: 22 ] لأنه على سفره الأول فكأنه لم يخرج من مكة فحين فرغ من الفاسدة لزمه أن يقضيها من مكة ; لأنه من أهل مكة . فلما خرج ثم أحرم بها فقضاها صار ملما بأهله كما فرغ فيبطل تمتعه ، كالمكي إذا خرج ثم عاد فاعتمر ثم حج من عام .

وعندهما متمتع لانتهاء سفره الأول . فهو حين عاد آفاقي فعلهما في أشهر الحج ، هذا إذا اعتمر في أشهر الحج وأفسدها ، فأما إذا كان اعتمر قبل أشهر الحج وأفسدها وأتمها على الفساد ، فإن لم يخرج من الميقات حتى دخل أشهر الحج فقضى عمرته فيها ثم حج من عامه فليس بمتمتع اتفاقا وهو كمكي تمتع فيكون مسيئا وعليه دم . فلو عاد إلى غير أهله إلى موضع لأهله المتعة ثم عاد بإحرام العمرة ثم عاد فقضاها في أشهر الحج ثم حج من عامه . ففي قول أبي حنيفة هذا على وجهين : في وجه يكون متمتعا ، وهو ما إذا رأى هلال شوال خارج المواقيت . وفي وجه لا يكون متمتعا وهو ما إذا رأى هلال شوال داخل المواقيت ; لأن في الوجه الأول أدركه أشهر الحج وهو من أهل التمتع ، وفي الثاني أدركته وهو ممنوع منه ; لأنه لا يزول المنع حتى يلحق بأهله .

وعندهما هو متمتع في الوجهين بناء على انقضاء السفرة الأولى بلحوقه بذلك الموضع فهو كما لو لحق بأهله . هذا وكلام الأصحاب كله على أن الخروج إلى الميقات من غير مجاوزة بمنزلة عدم الخروج من مكة ; لأن أهل المواقيت في حكم حاضري المسجد الحرام حتى إنه ليس لهم تمتع ولا قران ، ويحل لهم دخول مكة بغير إحرام إذا لم يريدوا النسك إلا ما ذكر الطحاوي أنه بمنزلة العود إلى الأهل .

قال : لو فرغ من عمرته وحل ثم ألم بأهله أو خرج إلى ميقات نفسه ثم عاد وأحرم بحجة من الميقات وحج من عامه لا يكون متمتعا بالإجماع ; لأن العود إلى ميقات نفسه ملحق بالأهل من وجه . ولو خرج إلى غير ميقات نفسه ولحق بموضع لأهله المتعة اتخذ دارا أو لا توطن أو لا ، ثم أحرم من هناك وحج من عامه يكون متمتعا عند أبي حنيفة لعدم الإلحاق بالأهل من كل وجه ، وقالا : لا يكون متمتعا ا هـ . والمعول عليه ما هو المشهور




الخدمات العلمية