الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أهل بحجة عن أبويه يجزيه أن يجعله عن أحدهما ) لأن من حج عن غيره بغير إذنه فإنما يجعل ثواب حجه له ، وذلك بعد أداء الحج فلغت نيته قبل أدائه ، وصح جعله ثوابه لأحدهما بعد الأداء ، بخلاف المأمور على ما فرقنا من قبل ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


( قوله ومن أهل بحجة عن أبويه فله أن يجعلها عن أحدهما ) فاستفدنا أنه إذا أهل عن أحدهما على الإبهام أن له أن يجعلها عن أحدهما بعينه بطريق أولى ، ومبناه على أن نيته لهما تلغو بسبب أنه غير مأمور من قبلهما أو أحدهما فهو متبرع فتقع الأعمال عنه ألبتة ، وإنما يجعل لهما الثواب وترتبه بعد الأداء فتلغو نيته قبله فيصح جعله بعد ذلك لأحدهما أو لهما ، ولا إشكال في ذلك إذا كان متنفلا عنهما ، فإن كان على أحدهما حج الفرض ، فإما أن يكون أوصى به أو لا ، فإن أوصى به فتبرع الوارث عنه بمال نفسه لا يسقط عن المورث ، وإن لم يوص فتبرع عنه بالإحجاج أو الحج بنفسه . قال أبو حنيفة . يجزيه إن شاء الله تعالى { لقوله عليه الصلاة والسلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين } الحديث ، شبهه بدين العباد . وفيه أنه لو قضى الوارث من غير وصية يجزيه [ ص: 159 ] فكذا هذا وغير ذلك من الآثار الدالة على أن تبرع الوارث مثل ذلك معتبر شرعا . فإن قيل : فلماذا قيد الجواب بالمشيئة بعدما صح الحديث ؟ قلنا : لأن خبر الواحد لا يوجب اليقين بل الظن ، فما كان من الأمور التي طريقها العمل لا يحتاج إلى ذكر المشيئة فيه لأن الظن طريقه فقد تطابقا ، وسقوط الفرض عن الميت بأداء الورثة طريقه العلم ، فإنه أمر يشهد به على الله تعالى بعد القطع بشغل الذمة به فلهذا قيده به .

واعلم أن فعل الولد ذلك مندوب إليه جدا لما أخرج الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام قال { من حج عن أبويه أو قضى عنهما مغرما بعث يوم القيامة مع الأبرار } وأخرج أيضا عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال { من حج عن أبيه وأمه فقد قضي عنه حجته وكان له فضل عشر حجج } وأخرج أيضا عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا حج الرجل عن والديه تقبل منه ومنهما واستبشرت أرواحهما وكتب عند الله برا } هذا وقد سبق الوعد بتقرير مسألة حج الصرورة عن الغير .

والصرورة يراد به الذي لم يحج عن نفسه فمنعه الشافعي رحمه الله لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، فقال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي أو قريب لي ، قال : حججت عن نفسك ؟ قال لا ، قال : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة } رواه أبو داود وابن ماجه .

قال البيهقي : هذا إسناد ليس في الباب أصح منه . وعن هذا لم يجوز الشافعي النفل للصرورة . قلنا : هذا الحديث مضطرب في وقفه على ابن عباس ورفعه ، والرواة كلهم ثقات ، فرفعه عبدة بن سليمان . قال ابن معين : عبدة أثبت الناس في سعيد بن أبي عروبة ، وتابعه محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن ميسر وأبو يوسف القاضي كلهم عن سعيد ، ووقفه غندر عن سعيد ، ورواه أيضا سعيد بن منصور .

حدثنا سفيان عن أيوب عن أبي قلابة سمع ابن عباس رجلا يلبي عن شبرمة فذكره موقوفا ، وليس هذا مثل ما ذكرناه غير مرة في تعارض الرفع والوقف من تقديم الرفع لأنه زيادة تقبل من الثقة فإن ذلك في حكم مجرد عن قصة واقعة في الوجود رواه واحد عن الصحابي يرفعه وآخر عن نفسه فقط ، فإن هذا يتقدم فيه الرفع لأن الموقوف حاصله أنه قد ذكره ابتداء على وجه إعطاء حكم شرعي أو جوابا لسؤال ، ولا ينافي هذا كون ما ذكره مأثورا عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم .

أما في مثل هذه وهي حكاية قصة : هي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع من يلبي عن شبرمة فقال له ما قال ، أو أن ابن عباس رضي الله عنهما سمع من يلبي عن شبرمة فقال له ذلك ، فهو حقيقة التعارض في شيء وقع في الوجود أنه وقع في ذلك الزمن أو في زمن آخر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره ، وتجويز أن يكون وقع في زمنه عليه الصلاة والسلام ثم وقع بحضرة ابن عباس سماعه رجلا آخر يلبي عن شبرمة فقال له من شبرمة ؟ فقال أخ أو قريب يعين ذلك ، فهو وإن لم يمتنع عقلا لكنه بعيد جدا في العادة فلا يندفع به حكم التعارض الثابت ظاهرا طالبا لحكمه فيتهاتران .

أو يرجح وقوعه في زمن ابن عباس لأن أحكام الحج كانت خفية في زمنه عليه الصلاة والسلام حتى وقع الخطأ في ترتيب أحكام كثيرة فسألوه عنها { فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح } وكثير ، وإنما تركوا السؤال ابتداء ظنا منهم بأن لا ترتيب معينا في هذه فإنها ليست أركانا لعلمهم أن الحج عرفة عنه [ ص: 160 ] عليه الصلاة والسلام والطواف بنص الكتاب فلما رأوا أن الذي فعله عليه الصلاة والسلام خلاف ذلك الترتيب فزعوا إلى السؤال فعذرهم بالجهل في ذلك الوقت ، فأما حج الإنسان عن غيره فأمر يأباه القياس فإن العقل لا يقتضي جوازه إذا خلى والنظر في مقصود التكاليف على ما قدمناه أول الباب فلم يكن يقدم عليه ذلك الرجل بلا سؤال ، ثم يتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلع عليه فيخبره بالحكم ، بخلافه في زمن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قد ظهرت الأحكام وعرف جواز النيابة باشتهار حديث الخثعمية وغيره بعلم الناس له وصح تكرار ذلك فهو مظنة أن يعلم أصل جواز النيابة فيفعل بلا سؤال فيكون قول ابن عباس رضي الله عنهما رأيا منه ولأن ابن المفلس ذكر في كتابه أن بعض العلماء ضعف هذا الحديث بأن سعيد بن أبي عروبة كان يحدث به بالبصرة فيجعل هذا الكلام من قول ابن عباس ثم كان بالكوفة يسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يفيد اشتباه الحال على سعيد وقد عنعنه قتادة ونسب إليه تدليس فلا تقبل عنعنته ، ولو سلم فحاصله أمر بأن يبدأ بالحج عن نفسه وهو يحتمل الندب فيحمل عليه بدليل وهو إطلاقه عليه الصلاة والسلام .

{ قوله للخثعمية : حجي عن أبيك } من غير استخبارها عن حجها لنفسها قبل ذلك . وترك الاستفصال في وقائع الأحوال ينزل منزلة عموم الخطاب فيفيد جوازه عن الغير مطلقا . وحديث شبرمة يفيد استحباب تقديم حجة نفسه وبذلك يحصل الجمع ويثبت أولوية تقديم الفرض على النفل مع جوازه . والذي يقتضيه النظر أن حج الصرورة عن غيره إن كان بعد تحقيق الوجوب عليه بملك الزاد والراحلة والصحة فهو مكروه كراهة تحريم لأنه يتضيق عليه والحالة هذه في أول سنى الإمكان فيأثم بتركه ، وكذا لو تنفل لنفسه ومع ذلك يصح لأن النهي ليس لعين الحج المفعول بل لغيره وهو خشية أن لا يدرك الفرض ، إذ الموت في سنة غير نادر .

فعلى هذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام { حج عن نفسك ثم عن شبرمة } على الوجوب ، ومع ذلك لا ينفي الصحة ويحمل ترك الاستفصال في حديث الخثعمية على علمه بأنها حجت عن نفسها أولا وإن لم يرو لنا طريق علمه بذلك جمعا بين الأدلة كلها : أعني دليل التضييق عند الإمكان وحديث شبرمة والخثعمية ، والله سبحانه أعلم .




الخدمات العلمية