الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 463 ] [ ص: 464 - 465 ] باب طلاق السنة ) [ ص: 466 ] قال ( الطلاق على ثلاثة أوجه : حسن ، وأحسن ، وبدعي . فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ويتركها حتى تنقضي عدتها ) ; لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلقها الرجل ثلاثا عند كل طهر واحدة ; ولأنه أبعد من الندامة وأقل ضررا بالمرأة ولا خلاف لأحد في الكراهة [ ص: 467 ] ( والحسن هو طلاق السنة ، وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار ) وقال مالك رحمه الله : إنه بدعة ولا يباح إلا واحدة ; لأن الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص وقد اندفعت بالواحدة . ولنا قوله [ ص: 468 ] صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما { إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة } ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة وهو الإقدام على الطلاق في زمان تجدد الرغبة وهو الطهر الخالي عن الجماع ، فالحاجة كالمتكررة نظرا إلى دليلها ، ثم قيل : الأولى أن يؤخر الإيقاع إلى آخر الطهر احترازا عن تطويل العدة ، والأظهر أن يطلقها كما طهرت ; لأنه لو أخر ربما يجامعها ، ومن قصده التطليق فيبتلى بالإيقاع عقيب الوقاع .

التالي السابق


وأما أقسامه فما أفاده المصنف بقوله ( الطلاق على ثلاثة أوجه : حسن ، وأحسن ، وبدعي ) اعلم أن الطلاق سني وبدعي ; والسني من حيث العدد ومن حيث الوقت ، والبدعي كذلك ، فالسني حسن وأحسن ( فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طهر لم يجامعها فيه ) ولا في الحيض الذي قبله ولا طلاق فيه ، وهذا على ظاهر المذهب على ما سيأتي ( ويتركها حتى تنقضي عدتها ) لما أسند ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستحبون أن يطلقها واحدة ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض . وقال محمد : بلغنا عن إبراهيم النخعي ( أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة فإن هذا أفضل عندهم من أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا عند كل طهر واحدة ; ولأنه أبعد عن الندامة ) حيث أبقى لنفسه مكنة للتدارك حيث يمكنه التزوج بها في العدة أو بعدها دون تخلل زوج آخر ( وأقل ضررا بالمرأة ) حيث لم تبطل محليتها بالنسبة إليه فإن سعة حلها نعمة عليها فلا يتكامل ضرر الإيحاش ( ولا خلاف لأحد في الكراهة ) أنها واقعة أو لا ، بل الإجماع على انتقائها ، بخلاف الحسن فإن فيه خلاف مالك ، ولما ذكرنا من قلة ضرر هذا واستحبابه عند الصحابة كان أحسن .

واعلم أن السني المسنون وهو كالمندوب في استعقاب الثواب ، والمراد به هنا المباح ; لأن الطلاق ليس عبادة في نفسه ليثبت له ثواب فمعنى المسنون منه ما ثبت على وجه لا يستوجب عتابا . نعم لو وقعت له داعية أن يطلقها عقيب جماعها أو حائضا أو ثلاثا فمنع نفسه من الطهر إلى الطهر الآخر والواحدة نقول إنه يثاب لكن لا على الطلاق في الطهر الخالي بل على كف نفسه عن ذلك الإيقاع على ذلك الوجه امتناعا عن المعصية وذلك الكف غير فعل الإيقاع ، وليس المسنون يلزم تلك الحالة ; لأنه لو أوقع واحدة في الطهر الخالي من غير أن يخطر له داعية ذلك الإيقاع سميناه طلاقا مسنونا مع انتفاء سبب الثواب وهو كف النفس عن المعصية بعد تهيؤ أسبابها وقيام داعيتها ، وهذا كمن استمر على عدم الزنا من غير أن يخطر له داعيته وتهيؤه له مع الكف عنه لا يثاب عليه ، ولو وقعت له داعيته [ ص: 467 ] وطلب النفس له وتهيؤه له وكف تجافيا عن المعصية أثيب ( قوله والحسن طلاق السنة ) وأنت حققت أن كلا منهما طلاق السنة فتخصيص هذا باسم طلاق السنة لا وجه له والمناسب تمييزه بالمفضول من طلاقي السنة .

قال ( وهو أن يطلق المدخول بها ثلاثا في ثلاثة أطهار ) سواء كانت الزوجة مسلمة أو غير مسلمة ; لأنه المخاطب بإيقاعه كذلك ، ويجب على الغائب إذا أراد أن يطلق أن يكتب إذا جاءك كتابي هذا وأنت طاهرة فأنت طالق ، وإن كنت حائضا فإذا طهرت فأنت طالق . وقال مالك : هذا بدعة ولا يباح إلا واحدة ; لأن الأصل في الطلاق هو الحظر والإباحة لحاجة الخلاص ، وقد اندفعت بالواحدة ( ولنا قوله صلى الله عليه وسلم ) فيما روى الدارقطني من حديث معلى بن منصور ، حدثنا شعيب بن زريق أن عطاء الخراساني ، حدثهم عن الحسن قال : حدثنا { عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرين ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله ، قد أخطأت السنة ، السنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء ، فأمرني فراجعتها . فقال : إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك ، فقلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ فقال لا ، كانت تبين منك وكانت معصية } أعله البيهقي بالخراساني قال : أتى بزيادات لم يتابع عليها ، وهو ضعيف لا يقبل ما تفرد به .

ورد بأنه رواه الطبراني : حدثنا علي بن سعيد الرازي ، حدثنا يحيى بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي ، حدثنا أبي : حدثنا شعيب بن زريق سندا ومتنا . وقد صرح الحسن بسماعه من ابن عمر ، وكذلك قال أبو حاتم . وقيل لأبي زرعة الحسن لقي ابن عمر ؟ قال نعم .

وأما إعلال عبد الحق إياه بمعلى بن منصور فليس بذاك ، ولم يعله البيهقي إلا بالخراساني ، وقد ظهرت متابعته ، ; ولأن الحكم يدار على دليل الحاجة لخفائها ; لأنها باطنة ، ودليلها الإقدام على طلاقها في زمن تجدد الرغبة ، وقد تكون الحاجة ماسة إلى تركها ألبتة لرسوخ الأخلاق المتباينة وموجبات المنافرة فلا تفيد رجعتها فيحتاج إلى فطام النفس عنها على وجه لا يعقب الندم والنفس تلح لحسن الظاهر ، وطريق إعطاء هذه الحاجة مقتضاها على الوجه المذكور [ ص: 468 ] أن يطلق واحدة ليجرب نفسه على الصبر ويعالجها عليه ، فإن لم يقدر تدارك بالرجعة ، وإن قدر أوقع أخرى في الطهر الآخر كذلك ، فإن قدر أبانها بالثالثة بعد تمرن النفس على الفطام ، ثم إذا أوقع الثلاثة في ثلاثة أطهار فقد مضت من عدتها حيضتان إن كانت حرة ، فإذا حاضت حيضة انقضت ، وإن كانت أمة فبالطهر من الحيضة الثانية بانت ووقع عليها ثنتان ( قوله ثم قيل الأولى أن يؤخر الطلاق إلى آخر الطهر احترازا عن تطويل العدة ) عليها .

وقال المصنف : والأظهر أي الأظهر من قول محمد حيث قال : إذا أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها واحدة إذا طهرت ، ورجحه بأنه لو أخر ربما يجامعها فيه ومن قصده تطليقها فيبتلى بالإيقاع عقيب الوقاع . ولا يخفى أن الأول أقل ضررا فكان أولى ، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله .




الخدمات العلمية