الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (50) قوله تعالى : أرأيتم : قد تقدم الكلام على " أرأيت " هذه ، وأنها تتضمن معنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين ، ثانيهما غالبا جملة استفهامية فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ وخبر كقولهم : " أرأيتك زيدا ما صنع " وتقدم مذاهب الناس فيها في سورة الأنعام فعليك باعتباره ثمة . ومفعولها الأول في هذه الآية الكريمة محذوف ، والمسألة من باب الإعمال لأنه تنازع [ ص: 214 ] أرأيت وأتاكم في " عذاب " ، والمسألة من إعمال الثاني ، إذ هو المختار عند البصريين ، ولما أعمله أضمر في الأول وحذفه ، لأن إبقاءه مخصوص بالضرورة ، أو جائز الذكر على قلة عند آخرين ، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني ؛ إذ الحذف منه لا يكون إلا في ضرورة أو في قليل من الكلام ، ومعنى الكلام : قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم ، أي شيء تستعجلون منه ، وليس شيء من العذاب يستعجل به لمرارته وشدة إصابته فهو مقتض لنفور الطبع منه . قال الزمخشري " فإن قلت : بم يتعلق الاستفهام وأين جواب الشرط ؟ قلت : تعلق بـ " أرأيتم " لأن المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون ، وجواب الشرط محذوف وهو " تندموا على الاستعجال " أو " تعرفوا الخطأ فيه " . قال الشيخ : " وما قدره غير سائغ لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا تقول : " أنت ظالم إن فعلت " التقدير : إن فعلت فأنت ظالم ، وكذلك : وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير : إن شاء الله نهتد ، فالذي يسوغ أن يقدر : إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري أيضا : " ويجوز أن يكون " ماذا يستعجل منه المجرمون " جوابا للشرط كقولك : إن أتيتك ما تطعمني ؟ ثم تتعلق الجملة بـ " أرأيتم " ، وأن يكون " أثم إذا ما وقع آمنتم به " . جوابا للشرط ، و " ماذا يستعجل منه المجرمون " اعتراضا ، والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان " . قال الشيخ : " أما تجويزه أن يكون " ماذا " [ ص: 215 ] جوابا للشرط فلا يصح ، لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء تقول : إن زارنا فلان فأي رجل هو ، وإن زارنا فلان فأي يد له بذلك ، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة ، والمثال الذي ذكره وهو " إن أتيتك ما تطعمني ؟ " هو من تمثيله لا من كلام العرب . وأما قوله : " ثم تتعلق الجملة بـ " أرأيتم " إن عنى بالجملة " ماذا يستعجل " فلا يصح ذلك ، لأنه قد جعلها جوابا للشرط ، وإن عنى بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو " أرأيتم " بمعنى أخبروني ، و " أخبرني " يطلب متعلقا مفعولا ، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما تجويزه أن يكون " أثم إذا ما وقع آمنتم به " جوابا للشرط و " ماذا يستعجل منه المجرمون " اعتراضا فلا يصح أيضا لما ذكرناه من أن جملة الاستفهام لا تقع جوابا للشرط إلا ومعها فاء الجواب ، وأيضا فـ " ثم " هنا هي حرف عطف تعطف الجملة التي بعدها على التي قبلها ، فالجملة الاستفهامية معطوفة ، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب الشرط ، وأيضا فـ " أرأيتم " بمعنى " أخبروني " تحتاج إلى مفعول ، ولا تقع جملة شرط موقعه " .

                                                                                                                                                                                                                                      وكون " أرأيتم " بمعنى " أخبروني " هو الظاهر المشهور . وقال الحوفي : " الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام التي معناها التقرير ، وجواب الشرط محذوف ، وتقدير الكلام : أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه " . انتهى ، فهذا ظاهر في أن " أرأيتم " غير مضمنة معنى الإخبار ، وأن الجملة الاستفهامية سدت مسد المفعولين ، ولكن المشهور الأول .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ماذا يستعجل قد تقدم الكلام على هذه الكلمة ومذاهب الناس فيها . وجوز بعضهم هنا أن تكون " ما " مبتدأ و " ذا " خبره ، وهو موصول [ ص: 216 ] بعنى الذي ، و " يستعجل " صلته وعائده محذوف تقديره : أي شيء الذي يستعجله منه أي من العذاب ، أو من الله تعالى . وجوز آخرون كمكي وأنظاره أن يكون " ماذا " كله مبتدأ أي : يجعل الاسمان بمنزلة اسم واحد ، والجملة بعده خبره . وقال أبو علي : " وهو ضعيف لخلو الجملة من ضمير يعود على المبتدأ " . وقد أجاب أبو البقاء عن هذا فقال : " ورد هذا القول بأن الهاء في " منه " تعود على المبتدأ كقولك : " زيد أخذت منه درهما " . قلت : ومثل أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك ، إلا أنه لا يرى عود الهاء على الموصول لأن الظاهر عودها على العذاب . قال الشيخ : " والظاهر عود الضمير في " منه " على العذاب ، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول " أرأيتم " " المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل " . وقال مكي : " وإن شئت جعلت " ما " و " ذا " بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء ، والجملة التي بعده الخبر ، والهاء في " منه " تعود أيضا على العذاب " . قلت : فقد ترك المبتدأ بلا رابط لفظي حيث جعل الهاء عائدة على غير المبتدأ فيكون العائد عنده محذوفا . لكنه قال بعد ذلك : " فإن جعلت الهاء في " منه " تعود على الله - جل ذكره - و " ما " و " ذا " اسما واحدا كانت " ما " في موضع نصب بـ " يستعجل " " والمعنى : أي شيء يستعجل المجرمون من الله " فقوله هذا يؤذن بأن الضمير لما عاد على غير المبتدأ جعله مفعولا مقدما ، وهذا الوجه بعينه جائز فيما إذا جعل الضمير عائدا على العذاب . ووجه الرفع على الابتداء جائز فيما إذا جعل الضمير عائدا على الله تعالى إذ العائد الرابط مقدر كما تقدم التنبيه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية