الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (83) قوله تعالى : فما آمن : الفاء للتعقيب ، وفيها إشعار بأن إيمانهم لم يتأخر عن الإلقاء ، بل وقع عقيبه ، لأن الفاء تفيد ذلك ، وقد تقدم توجيه تعدية " آمن " باللام . والضمير في " قومه " فيه وجهان ، أحدهما : - وهو الظاهر- عوده على موسى لأنه هو المحدث عنه ، ولأنه أقرب مذكور ، ولو عاد على فرعون لم يكرر لفظه ظاهرا ، بل كان التركيب " على خوف منه " ، وإلى هذا ذهب ابن عباس وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه يعود على فرعون ، ويروى عن ابن عباس أيضا ، ورجح ابن عطية هذا ، وضعف الأول فقال : " ومما يضعف عود الضمير على موسى أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قد فشت فيهم النبوات ، وكانوا قد نالهم ذل مفرط ، وكانوا يرجون كشفه بظهور مولود ، فلما جاءهم موسى أصفقوا عليه وتابعوه ، ولم يحفظ أن طائفة من بني إسرائيل كفرت بموسى ، فكيف تعطي هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن ؟ ، فالذين يترجح عوده على فرعون ، ويؤيده أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم وتوبيخهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 255 ] قوله : على خوف حال ، أي : آمنوا كائنين على خوف ، والضمير في " وملئهم " فيه أوجه ، أحدها : أنه عائد على الذرية ، وهذا قول أبي الحسن واختيار ابن جرير ، أي : خوف من ملأ الذرية ، وهم أشراف بني إسرائيل .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه يعود على قومه بوجهيه ، أي : سواء جعلنا الضمير في " قومه " لموسى أو لفرعون ، أي : وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يعود على فرعون ، واعترض على هذا بأنه كيف يعود ضمير جمع على مفرد ؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين ، أحدهما : أن فرعون لما كان عظيما عندهم عاد الضمير عليه جميعا ، كما يقول العظيم ، نحن نأمر ، وهذا فيه نظر ، لأنه لو ورد ذلك من كلامهم محكيا عنهم لاحتمل ذلك . والثاني : أن فرعون صار اسما لأتباعه ، كما أن ثمود اسم للقبيلة كلها " . وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين ، ولكنهما أخلص منهما ، قال : " إنما جمع الضمير في " ملئهم " لأنه إخبار عن جبار ، والجبار يخبر عنه بلفظ الجمع ، وقيل : لما ذكر فرعون علم أن معه غيره ، فرجع الضمير عليه وعلى من معه " . قلت : وقد تقدم نحو من هذا عند قوله : الذين قال لهم الناس إن الناس ، والمراد بالقائل نعيم بن مسعود ، لأنه لا يخلو من مساعد له على ذلك القول .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن يعود على مضاف محذوف وهو آل ، تقديره : على خوف من آل فرعون وملئهم ، قاله الفراء ، كما حذف في قوله

                                                                                                                                                                                                                                      واسأل القرية .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 256 ] قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزه لأحد : " وهذا عندنا غلط ، لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير ، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول : " زيد قاموا " وأنت تريد " غلمان زيد قاموا " . قلت : قوله " لأن المحذوف لا يعود إليه ضمير " ممنوع ، بل إذا حذف مضاف فللعرب فيه مذهبان : الالتفات إليه وعدمه وهو الأكثر ، ويدل على ذلك أنه قد جمع بين الأمرين في قوله وكم من قرية أهلكناها أي : أهل قرية ، ثم قال : " أو هم قائلون " وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه . وقوله : " لجاز زيد قاموا " ليس نظيره ، فإن فيه حذفا من غير دليل بخلاف الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الشيخ - بعد أن حكى كلام الفراء - ورد عليه بأن الخوف يمكن من فرعون ، ولا يمكن سؤال القرية ، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل ، وقد يقال : ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في " وملئهم " . قلت : يعني أنهم ردوا على الفراء بالفرق بين وسئل القرية وبين هذه الآية بأن سؤال القرية غير ممكن فاضطررنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية ، فإن الخوف تمكن من فرعون فلا اضطرار بنا يدلنا على مضاف محذوف . وجواب هذا أن الحذف قد يكون لدليل عقلي أو لفظي ، على أنه قيل في " واسأل القرية " إنه حقيقة ، إذ يمكن النبي أن يسأل القرية فتجيبه .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن ثم معطوفا محذوفا حذف للدلالة عليه ، والدليل كون الملك لا يكون وحده ، بل له حاشية وعساكر وجند ، فكان التقدير : على خوف من فرعون وقومه وملئهم ، أي : ملأ فرعون وقومه ، وهو منقول عن الفراء أيضا . قلت : حذف المعطوف قليل في كلامهم ، ومنه عند بعضهم [ ص: 257 ] قوله تعالى تقيكم الحر أي : والبرد ، وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2619 - كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا حذفته رجلها حذف أعسرا

                                                                                                                                                                                                                                      أي : ويدها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أن يفتنهم فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه في محل جر على البدل من " فرعون " ، وهو بدل اشتمال تقديره : على خوف من فرعون فتنته كقولك : " أعجبني زيد علمه " . الثاني : أنه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر أي : خوف فتنته ، وإعمال المصدر المنون كثير كقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما . وقول الآخر :


                                                                                                                                                                                                                                      2620 - فلولا رجاء النصر منك ورهبة     عقابك قد كانوا لنا بالموارد

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنه منصوب على المفعول من أجله بعد حذف اللام ، ويجري فيها الخلاف المشهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الحسن ونبيح " يفتنهم " بضم الياء وقد تقدم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      و " في الأرض " متعلق بـ " عال " أي : قاهر فيها أو ظالم كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      2621 - فاعمد لما تعلوا فما لك بالذي     لا تستطيع من الأمور يدان

                                                                                                                                                                                                                                      أي : لما تقهر . ويجوز أن يكون " في الأرض " متعلقا بمحذوف لكونه صفة لـ " عال " فيكون مرفوع المحل ، ويرجح الأول قوله : وإن فرعون لعال في الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية