الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : ولو جرحه فلم يوضحه منه أقص منه بقدر ما شق من الموضحة ، فإن أشكل لم أقد إلا مما استيقن .

                                                                                                                                            [ ص: 156 ] قال الماوردي : قد ذكرنا أن ما تقدم موضحة الرأس من الشجاج الستة وهي : الحارصة ، والدامية ، والدامغة ، والباضعة ، والمتلاحمة والسمحاق ، لا قصاص فيها ، لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن مورها في اللحم وقصورها عن حد العظم يمنع من التماثل لعدم الغاية فيه كالجائفة .

                                                                                                                                            والثاني : أن إثبات القصاص فيما دون الموضحة ينقص إلى أن يصير الاقتصاص منهـا موضحة لاختلاف الحلقة في جلدة الرأس لأنها تغلظ من قوم وترق من آخرين ولا بد في الاقتصاص من تقدير عمقها حتى لا يتجاوز ، وقد يكون عمقها من رأس المشجوج يبلغ إلى الموضحة من رأس الشاج ، فنكون قد اقتصصنا من المتلاحمة بالموضحة وهذا غير جائز ، فلهذين المعنيين سقط القصاص فيما دون الموضحة ، هذا مذهب الشافعي ، ومقتضى أصوله ، وما نص عليه في كتاب " الأم " وغيره ، وقال في كتاب " حرملة " : لأن ذلك في لحم ، غير أن المزني نقل عنه في هذا الموضع : ولو جرحه فلم يوضحه اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة ، وظاهر هذا يقتضي وجوب القصاص فيما دون الموضحة ، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أنه وهم من المزني في نقله ، لأن الشافعي لم يذكره في شيء من كتبه ، وهذا لا وجه له لأن المزني أضبط من نقل عن الشافعي وأثبتهم رواية .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن هذا محمول على قول ثان ، فيكون القصاص فيما دون الموضحة على قولين .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أنه ليس بقول ثان بخلاف نصه في جميع كتبه ، وإنما هو محمول على استيفائه إذا أمكن ، وهذا قول أبي إسحاق المروزي ، وأبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا ، فإن لم يكن فلا قصاص ، وليس يمكن استيفاء القصاص منه إلا على وجه واحد ، وهو أن يكون الشاج قد جرح المشجوج موضحة ومتلاحمة فينظر عمق الموضحة من رأس المشجوج وعمق المتلاحمة ، فإذا كان عمق الموضحة أنملة وعمق المتلاحمة نصف أنملة علم أن المتلاحمة من رأسه هي نصف موضحة ، فيقتص من رأس الشاج موضحة وينظر عمقها فإن كان أنملة فقد استوفى في عمق جلدة الرأس ، فإذا أردنا الاقتصاص من المتلاحمة بعد الموضحة اقتص إلى نصف أنملة من جلد رأسه ، وإن كان رأس الشاج أرق جلدا ولحما وكان عمق موضحته نصف أنملة [ ص: 157 ] اقتص من متلاحمته ربع أنملة ليكون نصف موضحة كما كانت من المشجوج نصف موضحة ، لا يمكن الاقتصاص منها إذا لم ينضم إليها موضحة في الجناية على المشجوج والقصاص من الشاج ، وإذا تقدرت المتلاحمة في القصاص إما بالنصف على ما مثلناه ، أو بالثلث إن نقص ، أو بالثلثين إن زاد تقدر أرشها بقسطها من أرش الموضحة من نصف أو ثلث أو ثلثين ، وإذا لم يتقدر المتلاحمة من الموضحة في القصاص لم يتقدر أرشها وكان فيها حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده كما يقدر حكومات سائر الجراح الذي لا قصاص فيه ولا دية على ما سنذكره .

                                                                                                                                            وحكى أبو حامد الإسفراييني عن أبي إسحاق المروزي ولم أره في شرحه : أنه إذا أشكل مور المتلاحمة ولم يتحقق قدر عمقها اعتبر ما يتيقن قدر مورها وما يشك فيه وجمع بينه وبين تقويم الحكومة ليعتبر بيقين المور صحة التقويم في الحكومة ويعتبر بتقويم الحكومة حكم الشك في المور ، فإذا تيقنا أن مور المتلاحمة نصف عمق الموضحة وشككنا في الزيادة عليه اعتبرنا تقويم الحكومة ، فنجده لا يخلو من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون قدر نصف أرش الموضحة فيتفقان في وجوب النصف ويدل كل واحد منهما على صحة الآخر ، ويكون الشك في زيادة المور مطرحا بالتقويم .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون تقويم الحكومة أكثر من نصف أرش الموضحة فيوجب ما زاد على نصف الأرش ، ويكون التقويم دليلا على أن ما شككنا فيه من زيادة المور على النصف ، قد صار بالتقويم معلوما .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون تقويم الحكومة أقل من النصف ويستدل بيقين المور على أن تقويم الحكومة خطأ ، لأن اليقين لا يغير بالاجتهاد ويستفاد بالتقويم إسقاط الشك فيما زاد على النصف والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية