الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبأنه ناسخ لجميع الشرائع قبله . قال الله سبحانه وتعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه [المائدة 48] بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله [التوبة 33] .

                                                                                                                                                                                                                              الحادية والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              ولو أدركه الأنبياء لوجب عليهم اتباعه

                                                                                                                                                                                                                              قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم : «لو كان موسى حيا اليوم لما وسعه إلا أن يتبعني»

                                                                                                                                                                                                                              وتقدم بيان ذلك في الباب السادس .

                                                                                                                                                                                                                              الثانية والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبأن في كتابه وشرعه الناسخ والمنسوخ؛ قال الله عز وجل : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [البقرة 106] ليس في سائر الكتب مثل ذلك؛ ولهذا كان اليهود ينكرون النسخ ، والسر في ذلك أن سائر الكتب نزلت دفعة واحدة فلا يتصور أن يقع فيها [ ص: 303 ] الناسخ والمنسوخ؛ لأن شرط الناسخ أن يتأخر إنزاله عن المنسوخ .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبعموم الدعوة للناس كافة . قال الله سبحانه وتعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [سبأ 28] وقال تبارك وتعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان 1] .

                                                                                                                                                                                                                              روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة»

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي : الجن داخلون في مسمى الناس . وصرح به أئمة اللغة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى والطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن الله فضل محمدا على أهل السماء ، وعلى الأنبياء . قال ابن عباس ، ما فضله على أهل السماء ؟ قال :

                                                                                                                                                                                                                              إن الله تعالى قال لأهل السماء : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم [الأنبياء 29] قال لمحمد : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [الفتح 1] فقد كتب له براءة ، قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : «إن الله تعالى قال : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [إبراهيم 4] وقال لمحمد : وما أرسلناك إلا كافة للناس [سبأ 28] فأرسله إلى الإنس والجن .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري في تاريخه والبزار والبيهقي وأبو نعيم عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت أنا إلى الجن والإنس»

                                                                                                                                                                                                                              فإن قيل : كان نوح مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان؛ لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه ، وقد كان مرسلا إليهم؛ فالجواب أن عموم هذا الإرسال من نوح لم يكن من أصل البعثة ، وإنما اتفق بالحادث الذي وقع ، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد إهلاك سائر الناس .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن الجوزي أنه كان في الزمن الأول إذا بعث نبي إلى قوم بعث غيره إلى آخرين ، وكان يجتمع في الزمن الأول جماعة من الرسل ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة ، فثبت اختصاصه بذلك ، وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة : أنه أول رسول الله إلى أهل الأرض؛ فليس المراد به عموم بعثه بل أولية الرسالة ، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو بخصوص تخصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات ، على أن إرسال نوح كان إلى قومه ، ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم ، واستدل بعضهم بعموم بعثته بكونه دعا على جميع من في الأرض وأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة ، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا؛ لقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء 15] وقد ثبت أنه أول الرسل ، وأجيب بجواز أن يكون [ ص: 304 ] غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح ، وعلم نوح أنهم لم يؤمنوا فدعا على من لم يؤمن من قومه ، ومن غيرهم فأجيب . قال الحافظ : وهذا جواب حسن ، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره ، ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم بقاء شريعته إلى يوم القيامة ، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه أو بعده فينسخ بعض شريعته ، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد بلغ بقية الناس ، فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب ، وإلى هذا نحا ابن عطية في تفسير سورة هود ، قال : وغير ممكن أن تكون نبوته لم تبلغ القريب والبعيد بطول المدة ، ووجهه ابن دقيق العيد بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون في حق بعض الأنبياء ، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما؛ لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك ، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم ، ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط ، وهي عامة في الصورة؛ لعدم وجود غيرهم ، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم ، قال العيني : وفيه نظر لا يخفى؛ لأنه تكون بعثته عامة لقومه لكونهم هم الموجودين ، ثم قال العيني : وعندي جواب آخر ، وهو جيد إن شاء الله تعالى ، وهو أن الطوفان لم يرسل إلا على قومه فقط الذين هو فيهم ، ولم يكن عاما ، انتهى . وهو كلام من ليس له اطلاع على أخبار الطوفان؛ فإنه عم الأرض بأسرها ولم ينج منه إلا من كان في السفينة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبأنه أكثر الأنبياء تابعا .

                                                                                                                                                                                                                              روى مسلم عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أنا أكثر الناس تابعا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى عنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما صدق نبي من الأنبياء ما صدقت ، إن من الأنبياء من لم يصدقه من أمته إلا الرجل الواحد» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «يأتي معي من أمتي يوم القيامة مثل السيل والليل ، فتحطم الناس حطمة ، فتقول الملائكة : لما جاء مع محمد أكثر مما جاء مع سائر الأمم والأنبياء» .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبإرساله إلى الخلق كافة من لدن آدم ، والأنبياء نواب له بعثوا بشرائع له مغيبات؛ فهو نبي الأنبياء . قاله السبكي والبارزي في التوفيق ، وتقدم مبسوطا في الباب أول الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وأرسل إلى الجن بالإجماع ، وإلى الملائكة في أحد قولين رجحه السبكي والبارزي [ ص: 305 ] وابن حزم والشيخ . قال تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان 1] العالمون شامل للملائكة كما هو شامل للإنس والجن ، وقد أجمع المفسرون على أن قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين [الفاتحة 2] شامل لهؤلاء الثلاثة ، فكذلك هذا ، والأصل بقاء اللفظ على عمومه حتى يدل الدليل على إخراج شيء منه ، ولم يدل هنا دليل على إخراج الملائكة ، ولا سبيل إلى وجوده ، لا من القرآن ولا من الحديث ، وقد نوزع من ادعى الإجماع على عدم إرساله إليهم ، فمن أين تخصيصه بالإنس والجن فقط دون الملائكة ؟ وكذا قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء 107] فإنه شامل للملائكة ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى : وقالوا : اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [الأنبياء 26] يعني الملائكة لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم [الأنبياء 27 ، 28 ، 29] .

                                                                                                                                                                                                                              كذلك روى ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : ومن يقل منهم قال : يعني الملائكة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن المنذر نحوه عن ابن جريج رضي الله عنه وفي حديث ابن عباس؛ فهذه الآية إنذار للملائكة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن الذي أنزل عليه ، وقد قال تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [الأنعام 19] قال الشيخ : ولم أقف إلى الآن على إنذار ، وقع في القرآن للملائكة سوى هذه الآية . والحكمة في ذلك واضحة؛ لأن غالب المعاصي راجعة إلى البطن والفرج ، وذلك يمتنع عليهم من حيث الخلقة ، فاستغني عن إنذارهم فيه ، ولما وقع من إبليس ، وكان منهم على ما رجحه غير واحد ، منهم النووي أو فيهم نظير هذه المعصية أنذروا فيها ، وقد أفرد الشيخ رحمه الله تعالى الكلام على هذه المسألة مؤلفا سماه «تزيين الأرائك في إرسال النبي إلى الملائك» بسط فيه الأدلة ، فليراجعه من أراده .

                                                                                                                                                                                                                              أعطى الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم من الملائكة أمورا لم يعطها أحد من الأنبياء ، وقال الشيخ جلال الدين المحلي في شرح «جمع الجوامع» ، وفي تفسير الإمام الرازي والبرهان للنسفي : حكاية الإجماع في تفسير الآية الثانية ، يعني آية الفرقان على أنه لم يكن مرسلا إليهم ، وعبارة الإمام قالوا : هذه الآية تدل على أحكام .

                                                                                                                                                                                                                              الأول : أن العالم كل ما سوى الله ، فيتناول جميع المكلفين من الجن والإنس والملائكة ، لكنا أجمعنا على أن قوله «أجمعنا» ليس صريحا في إجماع الأمة؛ لأن مثل هذه العبارة تستعمل لإجماع الخصمين المتناظرين ، بل لو صرح به لمنع؛ فقد قال الإمام السبكي في جواب السؤال [ ص: 306 ] عن رسالته إلى الجن في تعداد الآيات الدالة عليه ، الآية العاشرة ليكون للعالمين نذيرا [الفرقان 1] قال المفسرون كلهم في تفسيرها للجن والإنس ، وقال بعضهم : والملائكة . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                              وبالجملة ، فالاعتماد على تفسير الرازي والنسفي في حكاية الإجماع حكاية أمر لا تنهض حجته على طريق علماء النقل لأن مدارك نقل الإجماع من كلام الأئمة وحفاظ الأمة كابن المنذر ، وابن عبد البر ومن فوقهما في الاطلاع كالأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة من يلتحق بهم في سعة دائرة الاطلاع والحفظ والإتقان .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة والثمانون .

                                                                                                                                                                                                                              وبإرساله إلى الحيوانات والجمادات والحجر والشجر ، قاله البارزي ، واستدل بشهادة الضب والشجر والحجر له والرسالة .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية