الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهان :

                                                                                                                                                                                                                              الأول : استشكل الجزم بكونه -صلى الله عليه وسلم- أول من تنشق عنه الأرض ، وأول من يفيق مع التردد من خروج موسى قبله ، وإقامته قبله .

                                                                                                                                                                                                                              وأجيب بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق في جميع الخلائق أحيائهم وأمواتهم ، وهو الفزع كما وقع في سورة النمل ففزع من في السماوات ومن في الأرض [النمل - 87] ثم يعقب ذلك الفزع للموتى زيادة لما هم فيه وللأحياء موتا ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعين ، فمن كان مقبورا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره ومن ليس بمقبور لا يحتاج إلى ذلك . وسيأتي لهذا مزيد بيان في التنبيه الثاني .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : قال سلطان العلماء أبو محمد العز بن عبد السلام ما وجه هذا التردد مع صحة خبر أنه -صلى الله عليه وسلم- مر بموسى ليلة أسري به قائما يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ، وأخبر أيضا . [ ص: 381 ]

                                                                                                                                                                                                                              عن صعقة موسى وما جرى له مع ملك الموت ، والكل من رواية أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- وأجيب بأجوبة . قال : الصحيح منها ما ذهب إليه الإمام العلامة الحافظ أبو شامة المقدسي ، وقال : إنه جواب صحيح أرشد إليه أبو عمرو بن الحاجب قال : ثم وجدت تقريره في الكتاب والسنة عن واحد من العلماء ، أن هذه الصعقة المذكورة في الحديث ليست النفخة الواقعة في آخر الدنيا ، ولا الثانية التي يعقبها نشور الموتى من قبورهم ، فإنما هي صعقة كما في الناس يوم القيامة ، فيصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله ، وهي المشار إليها في آية الزمر ، وذلك أول من حملها على صفة آخر الدنيا ، والدليل على أن في آخر يوم القيامة صعقة قوله تعالى : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [الطور - 45] وهذا ظاهر في يوم تعمهم فيه الصعقة ، فأصعق معهم فأكون أول من يفيق وفي رواية : "فأكون أول من تنشق عنه الأرض" قال : وهذا والله أعلم ، تفسير من الراوي ، واللفظ الأول أولى أن يكون محفوظا ، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم- : "من يبعث" فظن بعض الرواة أن المراد من ذلك البعث من القبور

                                                                                                                                                                                                                              فقال : أول من تنشق عنه الأرض والنبي -صلى الله عليه وسلم- أول من تنشق عنه الأرض حقا كما جاء في حديث آخر ، لكن هذا الحديث لا يحتمل هذا اللفظ لأجل قوله : "يوم القيامة"

                                                                                                                                                                                                                              ففي البخاري عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : "إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" ، فهذا نص في أن الناس يصعقون في يوم القيامة ، وهو تفسير ما في آخر الزمر كما مضى في بعض ألفاظ الحديث الصحيح ، وطرق الحديث واختلاف ألفاظه إذا أمكن الجمع بينها لم يضر بعضها بعضا ، وعند ذلك تظهر المناسبة في تردد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأن موسى حوسب بصعقة الطور ، لأنها من جنس ما أصاب الناس ، وقدر الله أن بعض الناس مستثنى منه بقوله : إلا من شاء الله [الزمر - 68] فجاز أن يكون منهم ، ونحوه أجاب ابن القيم . وأنه قال : فإن قيل : فما يصعقون ؟ بقوله "فلا أدري أفاق قبلي ، أم كان ممن استثنى الله -عز وجل-" ، والذين استثناهم الله -عز وجل- ، هم مستثنون من صعقة النفخة لا من صعقة يوم القيامة ، كما قال الله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [الزمر 68] . ثم نفخ فيه أخرى ولم يقع الاستثناء في صعقة الخلائق يوم القيامة ، قيل : هذا- والله أعلم- غير محفوظ ، وهو وهم من بعض الرواة ، والمحفوظ ما تواطأت عليه الروايات الصحيحة من قوله : "لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ، فظن بعض الرواة أن هذه الصعقة ، هي صعقة النفخ ، وأن موسى داخل فيمن استثنى الله تعالى منها ، وهذا لا يلتئم على سياق الحديث قطعا ، فإن الإفاقة حينئذ [ ص: 382 ] هي إفاقة البعث فكيف يقول : "لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ؟ " فتأمله وهذا بخلاف الصعقة التي يصعقها الناس يوم القيامة ، فإذا جاء الله بفصل القضاء بين العباد وتجلى لهم فإنهم يصعقون ، وأما موسى -صلى الله عليه وسلم- فإن كان لم يصعق معهم ، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضا من صعقة الخلائق لتجلي الرب-عز وجل- يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة : وبأنه يحشر في سبعين ألف ملك .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة : وبأنه يحشر على البراق .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة : وبأنه يؤذن باسمه في الموقف .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة : وبأنه يكسى في الموقف أعظم الحلل من الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              السابعة : وبأنه يقوم عن يمين العرش -صلى الله عليه وسلم- .

                                                                                                                                                                                                                              الثامنة : وبأنه أعطي المقام المحمود .

                                                                                                                                                                                                                              روى الترمذي ، وابن ماجه عن سعد بن أبي وقاص قال : سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود ، فقال : "هو الشفاعة" . والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة . وقال مجاهد أيضا : المقام المحمود مجلسه على العرش .

                                                                                                                                                                                                                              - ورواه ابن جرير ، وقال : الأول أولى ، على أن الثاني ليس بمدفوع- لا من جهة النقل ولا من جهة الظن- قال ابن عطية : هو كذلك إذا حمل على ما يليق به ، وبالغ الواحدي في رد هذا القول فقال : هذا قول رذل موحش فظيع ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ، وبسط الكلام على ذلك ، وأما النقاش فنقل عن أبي داود صاحب السنن أنه قال : من أنكر هذا الحديث فهو متهم .

                                                                                                                                                                                                                              قلت : والنقاش متهم بالوضع ، وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ ، وعن عبد الله بن سلام قال : إن محمدا يوم القيامة على كرسي الرب بين يدي الرب . قلت : وقال ابن كثير : ومثل هذا لا ينبغي قبوله إلا ممن هو معصوم ، ولم يثبت فيه حديث يعول عليه ولا يصار بسببه إليه .

                                                                                                                                                                                                                              وقول مجاهد في هذا المقام ليس بحجة ، ولم يصح إسناده إلى ابن سلام . قال الحافظ : [ ص: 383 ] فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف ، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن علي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية