الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

حاشية الدسوقي على الشرح الكبير

الدسوقي - محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي

صفحة جزء
، ولما أنهى الكلام على التفليس بالمعنى الأعم وهو قيام الغرماء على من أحاط الدين بماله شرع في الكلام عليه بالمعنى الأخص وهو حكم الحاكم بخلع ما بيده لغرمائه لعجزه عن وفاء ما عليه فقال ( وفلس ) بالبناء للمفعول أي المدين الذي أحاط الدين بماله [ ص: 264 ] أي فلسه الحاكم بأن يحكم بخلع ما بيده لغرمائه بالشروط الآتية ويحتمل بناؤه للفاعل والضمير للحاكم والأول أقرب ( حضر ) المدين ( أو غاب ) ولو على مسافة شهر ( إن لم يعلم ) حال خروجه ( ملاؤه ) بالمد والهمز أي تقدم غناه على وقت غيبته المتوسطة كعشرة أو البعيدة ، فإن علم لم يفلس وغيبة ماله كغيبته وأشار لشروط التفليس الثلاثة بقوله ( بطلبه ) أي التفليس أي بسبب طلب الغريم له ( وإن أبى غيره ) من بقية الغرماء فيكفي طلب بعض الغرماء وإذا فلس للبعض كان للباقي محاصته وفهم من هذا الشرط أنه لا يفلس نفسه . الشرط الثاني قوله ( دينا حل ) أصالة أو بانتهاء أجله فلا يفلس بمؤجل . والثالث قوله ( زاد ) ذلك الدين الذي عليه ( على ماله ) الذي بيده فلا يفلس بمساو ( أو ) لم يزد لكن ( بقي ) من مال المدين ( ما لا يفي بالمؤجل ) فيفلس على المذهب كمن عليه مائتان مائة حالة والأخرى مؤجلة ومعه مائة وخمسون فالباقي بعد وفاء المائة الحالة لا يفي بالدين المؤجل فيفلس ولو أتى بحميل .

التالي السابق


( قوله ولما أنهى الكلام على التفليس بالمعنى الأعم إلخ ) هذا غير صحيح ; لأنه إنما تكلم فيما تقدم على إحاطة الدين بماله وذلك ليس بتفليس بل حالة قبله ، وقد يقال إن ما سبق من قوله وللغريم منع من أحاط الدين بماله يشير لقيام الغرماء وهو التفليس بالمعنى الأعم .

والحاصل أن المدين له ثلاثة أحوال :

الحالة الأولى إحاطة الدين بماله قبل التفليس فلا يجوز له في هذه الحالة إتلاف شيء من ماله بغير عوض فيما لا يلزمه فلا يجوز له هبة ولا صدقة ولا عتق ولا حبس ولا إقرار بدين لمن يتهم عليه وإذا فعل شيئا من ذلك كان للغرماء إبطاله ويجوز تصرفه إذا كان ذلك التصرف ماليا وإلى هذه الحالة أشار المصنف بقوله للغريم منع من أحاط الدين بماله .

الحالة الثانية قيام الغرماء عليه فيسجنونه أو يقومون عليه فيستتر منهم فلا يجدونه [ ص: 264 ] فيحولون بينه وبين ماله ويمنعونه من التبرعات والتصرفات المالية بالبيع والشراء والأخذ والعطاء ولو بغير محاباة ومن التزوج ولهم قسم ماله بالمحاصة وهذه الحالة سكت المصنف عنها ولم يذكرها .

الحالة الثالثة حكم الحاكم بخلع ماله للغرماء لعجزه عن قضاء ما لزمه ويترتب على هذه الحالة أيضا منعه من التبرعات والتصرفات المالية ، وقسم ماله بين الغرماء وحلول ما كان مؤجلا من الدين وإلى هذه الحالة أشار المصنف بقوله وفلس حضر أو غاب كما قال الشارح تبعا لغيره ويحتمل أنه أشار بقوله وفلس إلخ للحالة الثانية والثالثة كما قال بعضهم والمعنى حينئذ وحجر عليه بسبب طلبه بدين حل عليه أعم من أن يكون ذلك الحجر من قيام الغرماء أو من حكم الحاكم بخلع ماله ، والحالة الثانية تسمى فلسا بالمعنى الأعم ، والثالثة تسمى فلسا بالمعنى الأخص والأعمية والأخصية باعتبار التحقق ; لأن حكم الحاكم بخلع المال إنما يكون بعد قيام الغرماء فكلما وجد الأخص وجد الأعم ولا عكس إذ قد يقوم الغرماء على المدين من غير أن يرفعوا الأمر للحاكم كذا قرر شيخنا .

( قوله أي فلسه الحاكم ) أي جاز له أن يفلسه خلافا لعطاء القائل أنه لا يجوز التفليس ; لأن فيه هتكا لحرمة المديان وإذلالا له ( قوله حضر أو غاب ) أي حال كونه حاضرا أو غائبا مثل اضرب زيدا ذهب أو حبس أي اضربه على كل حال أي فلس على كل حال ( قوله فإن علم لم يفلس ) أي استصحابا لحاله قبل غيبته ( قوله وغيبة ماله كغيبته ) ظاهره أنه إذا حضر المدين وغاب ماله فإنه يجوز تفليسه سواء كانت غيبة المال بعيدة أو متوسطة أو قريبة والذي في بن عن ابن عاشر الاتفاق على التفليس إن بعد المال جدا كشهر ، وأما إن غاب غيبة متوسطة كعشرة أيام فابن القاسم يقول إنه لا يفلس وأشهب يقول إنه يفلس ، وأما إذا كانت الغيبة قريبة فإنه يكشف عن المال ويفحص عنه هل يفي بالدين فلا يفلس أو لا يفي به فيفلس ؟

( قوله وأشار لشروط التفليس الثلاثة ) أي وهي أن يطلب الغرماء تفليسه كلهم أو بعضهم ، وأن يكون الدين الذي عليه وطلب التفليس لأجله حالا ، وأن يكون ذلك الدين الحال يزيد على ما بيد المدين من المال أو كان ما بيد المدين يزيد على الدين الحال ولكن تلك الزيادة لا تفي بالدين المؤجل ( قوله بطلبه ) متعلق بفلس ( قوله وإن أبى غيره ) أي غير الطالب أو سكت .

( قوله فيكفي طلب بعض الغرماء ) أي فيكفي في تفليس الحاكم له طلب بعض الغرماء لتفليسه ، وأشار بهذا لقول المدونة قال مالك إذا أراد واحد من الغرماء تفليس الغريم وحبسه وقال بعضهم ندعه ليسعى حبس لمن أراد حبسه ونحوه في التوضيح ( قوله كان للباقي محاصته ) أي كان لمن لم يطلب تفليسه محاصة من طلب تفليسه ( قوله إنه لا يفلس نفسه ) أي ليس له أن يرفع الأمر للحاكم ويثبت عدمه ويفلسه الحاكم من غير طلب الغرماء ذلك ( قوله دينا ) مفعول لأجله أي لأجل دين أي لأجل إرادة دين ; لأن المفعول لأجله لا بد أن يكون مصدرا ( قوله زاد ذلك الدين ) أي الحال الذي عليه على ماله الذي بيده سواء كان ذلك الحال كله لطالب تفليسه أو بعضه له وبعضه لغيره هذا هو الصواب خلافا لما يقتضيه كلام بعضهم من أن المدين لا يفلس إلا إذا كان دين الطالب لتفليسه الحال زائدا على ما بيده فعلى هذا إذا كان الدين الحال زائدا على ما بيده ولكن دين الطالب لتفليسه الذي هو بعض الحال لا يزيد على ما بيده لا يفلس وليس كذلك ( قوله فلا يفلس بمساو ) أي إذا كان ما بيده مساويا للدين الذي عليه الحال فإنه لا يفلس ولا تهتك حرمته ، وهذا لا ينافي أنه يمنع من التبرعات كما مر ( قوله فيفلس على المذهب ) وقيل لا يفلس في هذه الحالة ; لأن الديون المؤجلة لا يفلس بها والقول الأول للخمي والثاني للمازري ( قوله فيفلس ولو أتى بحميل ) ظاهره أنه يفلس في هذه الحالة ولو كانت الفضلة الباقية بيده يعامله الناس بسببها ويرجى من تنميته لها ما يقضي به الدين المؤجل وقال ابن محرز إنه لا يفلس وظاهر كلام ابن عرفة أن هذا التقييد هو [ ص: 265 ] المذهب فيحمل القول بتفليسه على ما إذا كان لا يرجى بتحريكه الفضلة وفاء المؤجل فقول المصنف لا يفي أي ولو بواسطة التحريك فوافق ما لابن محرز .




الخدمات العلمية