الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن أكثر من ذكر شيء وإن كان تكلفا أحبه فكذلك أول الذكر متكلف إلى أن يثمر الأنس بالمذكور والحب له ثم يمتنع الصبر عنه آخرا فيصير الموجب موجبا والثمر مثمرا .

وهذا معنى قول بعضهم كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة ولا يصدر التنعيم إلا من الأنس والحب ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلف مدة طويلة حتى يصير التكلف طبعا

التالي السابق


( ومن أكثر ذكر شيء) وإن كان تكلفا في الأول وتصنعا ( أحبه) لا محالة ولا دور فيه كما يظن؛ فإن الحب الأول تكلفي والثاني حقيقي، فتفارقا ( فكذلك أول الذكر) للذاكر ( تكلف) فيما يجده من نفسه، فإذا داوم انتقل إلى مقام وسط، يغلبه التكلف تارة ويغيب عنه أخرى ( إلى أن) يترقى بهمة مريبة ( إلى) مقام الفناء الأول و ( يثمر) له ( الأنس) والألفة ( بالمذكور والحب له) وفيه ( ثم يمتنع الصبر عنه آخرا فيصير الموجب) بكسر الجيم ( موجبا) بفتحها ( ويصير الثمر مثمرا) للغايات ( وهذا معنى قول بعضهم) من العارفين: ( كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة) تقدم ذلك للمصنف، ونقله صاحب القوت عن ثابت البناني، وعن عتبة الغلام، ورأيته في الحلية في ترجمة ثابت: "كابدت الليل" بدل "القرآن" .

( ولا يصدر التنعم) بشيء ( إلا من الأنس والحب) الحاصلين منه ( ولا يصدر الأنس) والحب ( إلا من المداومة على المكابدة) والمجاهدة ورياضة النفس وتدريبها ( والتكلف) من ذلك ( مدة طويلة) بحسب همة السالك وقوته ومعرفته ( حتى يصير التكلف طبعا) مناسبا له، لا ينفك عنه، ويصير حكمه حكم المزاج الذي لا محيد له عنه، والسالكون في قطع هذه المفازة على مراتب: فمنهم من يقطع ذلك في ستين، ومنهم في أربعين، وهذا هو الحد الكامل عند السادة الخلوتية، ومنهم في عشرين، كما وقع لعتبة الغلام، وثابت البناني، ومنهم في عشر، ومنهم في أقل من ذلك .

وقد قلنا: إن الصحيح أن ذلك مربوط بهمة السالك، وقوة مربيه، فقد تقع المصلحة في لمحة، وتحصل الملاحظة في لحظة، وإليه الإشارة بقولهم: ما سلم حتى ودع، أي: ما دخل في أول قدمه حتى ترك ما سوى الله، وغالب البطر للسالكين إنما يحصل من أمرين:

أحدهما: الوقوف مع الموطن الذي أقيم فيه، فيكون حاجبا له عن الوصول إلى الترقيات، أولا ترى أن العلم أشرف شيء بعد الله تعالى، فمن وقف معه حجبه عن الله، ورجع إلى كونه نعمة أنعم الله بها عليه، ولا صعود في حقه ما لم ينزع نفسه عن الوقوف في ذلك الموطن .

والثاني: الإيغال في تحرير أدلة التوحيد على طريقة المتكلمين، فكلما قام بباطنه أمر ما نفاه، ووقف مع قوله: ليس كمثله شيء ولو علم أن الطريق إلى الله أسهل الأشياء وأوضحها لاستراح من أول قدم، وفرغ المحل ليكون قابلا للمواهب والمعارف .

وأما أصحاب الفكر فهم الذين شغلوا المحل وصرفوه عن القبول الإلهي بالفكر فيما لا يصح اقتناصه بالفكر، فتأمل ذلك .

ومما يؤيد ما ذكرت من بطء السالك تارة في سيره ما ذكره الشيخ الأكبر -قدس سره- في بعض مخاطباته ما معناه: كان الشيخ أبو مدين -رحمه الله تعالى- يقصد قرب الطريق على المريدين، فينقلهم من هذه الطرق إلى الفتح من غير أن يمروا على الملكوت؛ لما فيه من الخطر، وتعشق الأنفس به، فإذا حصل للعبد الفتح تدلى إلى العالم، فكشفه بالحق تعالى، ثم سأله السائل وقال له: يا سيدي فهل للشيخ أثر في ذلك؟ قال: نعم، وهو بمنزلة الدليل الذي يقول لك: اسلك هذه الجهة؛ فإنها أقرب من هذه .

والسلوك عندنا بمنزلة الدائرة، وهي درج يعتضد السالك إلى أن يرقى جميعها، فإذا خالف الأمر على الترتيب فيتعب، أو يطول سلوكه، فإذا وقع له العارف اختصر له الطريق، أما سمعت إشارة أبي يزيد -رحمه الله- بقوله: وقفت مع المجاهدين فلم أر لي معهم قدما، وقفت مع الصائمين والمصلين -إلى أن عد مقامات كثيره- في ذلك كله يقول: فلم أر لي معهم قدما، فقلت: يا رب، كيف الطريق إليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال، فاختصر له الطريق، وهي ألطف كلمة، وأخصر ما في الباب، فلما ترك نفسه قام الحق معه، وهذه أقرب الطرق .




الخدمات العلمية