الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكل ما يتخذ من الشيء المطعوم فلا يجوز أن يباع به متماثلا ، ولا متفاضلا ، فلا يباع بالحنطة دقيق ، وخبز ، وسويق ولا بالعنب والتمر دبس وخل ، وعصير ولا باللبن سمن ، وزبد ، ومخيض ومصل وجبن والمماثلة لا تفيد إذا لم يكن الطعام في حال كمال الادخار فلا يباع الرطب بالرطب والعنب بالعنب ، متفاضلا ومتماثلا فهذه جمل مقنعة ، في تعريف البيع والتنبيه على ما يشعر التاجر بمثارات الفساد حتى يستفتي فيها إذا تشكك والتبس عليه شيء منها وإذا لم يعرف هذا لم يتفطن لمواضع السؤال واقتحم الربا والحرام وهو لا يدري .

التالي السابق


(وكل ما يتخذ من الشيء فلا يجوز أن يباع به متماثلا، ولا متفاضلا، فلا يباع بالحنطة دقيق، وخبز، وسويق) بعمل من الحنطة، ومن الشعير أيضا، وذلك أن يقلى البر، أو الشعير، ثم يطحن، ثم يضاف إليه شيء من السكر، أو التوابل .

(ولا بالعنب دبس) هو عصارة الرطب (وخل، وعصير) هو الخمر (ولا باللبن سمن، وزبد، ومخيض) فعيل، بمعنى مفعول، وهو اللبن الذي مخض، واستخرج زبده، بوضع الماء فيه، وتحريكه (ومصل) بفتح فسكون، عصارة الأقط، وهو ماؤه الذي يعتصر منه حين يطبخ، قاله ابن السكيت (وجبن) وهو معروف .

قال الرافعي: يجوز بيع الحنطة بشيء مما يتخذ منها من المطعومات، كالدقيق، والسويق، والخبز، والنشا، ولا بما فيه شيء مما يتخذ من الحنطة، كالمصل، ففيه الدقيق، والفالوذج، ففيه النشا، وكذا يجوز بيع هذه الأشياء بعضها ببعض; لخروجها عن حالة الكمال، هذا ما يفتى به من المذهب .

ونقل الكرابيسي، عن أبي عبد الله: تجويز بيع الحنطة بالدقيق، فمنهم من جعله قولا آخر للشافعي، وبه قال أبو الطيب بن سلمة، ومنهم من لم يثبته قولا، وقال: أراد بأبي عبد الله: مالكا، أو أحمد.

وجعل الإمام منقول الكرابيسي شيئا آخر، وهو أن الدقيق مع الحنطة جنسان، حتى يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، ويشبه أن يكون هو منفردا بهذه الرواية، وحكى البويطي، والمزني في المنثور قولا: أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق، وإن امتنع بيعه بالحنطة، كما يجوز بيع الدهن بالدهن، وإن امتنع بيعه بالسمسم .

وفي بيع الخبز الجاف المدقوق بمثله قول في المذهب، وقال مالك: يجوز بيع الحنطة بالدقيق، وبه قال أحمد في أظهر الروايتين، إلا أن مالكا يعتبر الكيل، وأحمد يعتبر الوزن .

ويجوز بيع الحنطة وما يتخذ منها من المطعومات بالنخالة; لأنها ليست بمال الربا، ولما كانت أموال الربا تنقسم إلى ما تغير من حال إلى حال، وإلى ما لا يتغير، والتي يتغير منها يعتبر المماثلة في بيع الجنس بالجنس منها في أكمل أحوالها، فمن المتغيرات: الفواكه، فتعتبر المماثلة في المتجانسين منها حالة الجفاف، ولا يغني التماثل في غير تلك الحالة .

وقد أشار المصنف إلى ذلك فقال: (والمماثلة لا تفيد إذا لم يكن الطعام في حال كمال الادخار) وعبارة الوجيز: والمماثلة ترعى حالة الجفاف، وهو حال كمال الشيء، ولا خلاص في المماثلة قبله (فلا يباع الرطب بالرطب، وبالتمر، و) كذا (العنب) بالعنب (متماثلا، ولا متفاضلا) وكل فاكهة كمالها في جفافها، [ ص: 450 ] وهو حالة الادخار، أما بيع الرطب بالرطب فللجهل بالمماثلة; لأنه لا يعرف قدر النقصان منهما، وأما بيع الرطب بالتمر; فلتيقن التفاوت عند الجفاف; لما روي عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرطب بالتمر؟ فقال: أينقص الرطب إذا جفت؟ قالوا: نعم. قال: فلا إذا. ويروى: فنهى عن ذلك، فانسد البيع. وأشار إلى العلة، وهو النقصان، ودل الحديث على أنه: يشترط لجواز العقد، المماثلة في أعدل الأحوال، وهو ما بعد الجفاف، لا في الحال، فصار نظير بيع الدقيق بالحنطة، فإنه يجوز للتفاوت بعد الطحن، وبه قال أبو يوسف، ومحمد.

وكذا لا يباع العنب بالعنب، وبالزبيب، وهكذا كل ثمرة لها حالة الجفاف، كالتين، والمشمش، والخوخ، والبطيخ والكمثرى اللذين يعلقان، والإجاص، والرمان الحامض، لا يباع رطبها برطبها، ولا بيابسها .

ولا يباع الحديث بالعتيق، إلا أن يتقي النداوة في الحديث، بحيث يظهر أثر زوالها في المكيال، فأما ما ليس له جفاف، كالعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا يتتمر، والبطيخ والكمثرى اللذين لا يعلقان، والرمان الحلو، والباذنجان، والقرع، والبقول، ففي بيع بعضها ببعض قولان في المذهب، وعند أبي حنيفة: يجوز بيع الرطب بالتمر، وبالرطب متماثلا، والعنب بالزبيب، وبالعنب كذلك، وكذا في نظائرهما، واحتج بالحديث المشهور: التمر بالتمر مثلا بمثل. والرطب تمر، فيجوز بيعه بالتمر متماثلا، والدليل على أنه تمر، أنه صلى الله عليه وسلم حين أهدي إليه رطب، قال: أوكل تمر خيبر هكذا؟ وروي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر حتى يزهي، فقيل: ما يزهي؟ قال: يحمر، وهو اسم له من أول ما ينعقد، إلى أن يدرك; ولأنه إن كان تمرا جاز بيعه بأول الحديث، وهو التمر بالتمر، مثلا بمثل، وإن كان غير تمر، فبآخره، وهو قوله: إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم; ولأنهما مستويان في الحال، وإنما يتفاوتان في المال; لذهاب جزء منه، وهو الرطوبة بخلاف بيع الحنطة بالدقيق; لأنهما متفاوتان في الحال، يظهر ذلك بالطحن; إذ الطحن لا يزيد في ذلك شيئا، وما رووه من حديث سعد لم يصح عنده; لأن مداره على زيد بن عياش، وهو ضعيف، وقيل: مجهول، ولئن صح فهو مجهول، على أن السائل كان وصيا فى مال يتيم، ووليا لصغير، فلم ير صلى الله عليه وسلم بهذا التصرف نظرا له; إذ هو مفيد بالنظر، ألا ترى أنه يمنع من بيع الجيد والرديء من مال الربا; لما ذكرنا .

وبيع العنب بالزبيب على هذا الخلاف، والوجه ما بيناه من الجانبين، وقيل: لا يجوز بالاتفاق، والفرق لأبي حنيفة بينه وبين الرطب بالتمر في هذه الرواية: أن اللفظ الوارد بنص التمر هناك، يتناول الرطب، ولم يوجد مثله هنا، فبقي محرما حتى يعتدل، وأما بيع الرطب بالرطب; فلما روينا; لأن اسم التمر يتناوله، فيجوز بيعه مثلا بمثل كذلك .

ولو باع البسر بالتمر لا يجوز التفاضل فيه; لأنه تمر على ما بينا، بخلاف الكفرى

ولو باع حنطة رطبة أو مبلولة بحنطة رطبة، أو يابسة، أو تمرا أو زبيبا منتقعين بتمر مثله، أو بزبيب مثله، أو باليابس منهما، جاز في الكل عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز في شيء من ذلك; لأنه يعتبر المساواة في أعدل الأحوال، وهو بعد اليبس، والفرق له بين الرطب بالرطب، وبين بيع المبلول ونحوه بمثله، حيث أجاز بيع الرطب بالرطب، ومنع غيره جميعه: أن التفاوت فيها يظهر مع بقاء البدلين على الاسم الذي عقد عليه، وفي الرطب بالتمر مع بقاء أحدهما على ذلك الاسم فيكون تفاوتا في عين المعقود عليه، وفي الرطب بالرطب يكون التفاوت بعد زوال ذلك الاسم، فلم يكن تفاوتا في المعقود عليه، وأبو حنيفة يعتبر المساواة في الحال، وكذا أبو يوسف; لإطلاق الخبر: الحنطة بالحنطة، مثلا بمثل. الحديث. وهو بإطلاقه يتناول الحنطة، والشعير، والتمر، على أي صفة كان، إلا أن أبا يوسف ترك هذا الأصل في بيع الرطب بالتمر من منعه، محتجا بحديث زيد بن عياش، الذي تقدم حاله، وذكره، والله أعلم .

(تنبيه)

قال الرافعي في شرح الوجيز: وأما ما أجراه المصنف من لفظ الادخار، فإن طائفة من الأصحاب ذكروه، وآخرون أعرضوا عنه، ولا شك أنه غير معتبر لحالة التماثل في جميع الربويات، ألا ترى أن اللبن يدخر، ويباع بعضه ببعض، فمن أعرض عنه فذاك، ومن أطلق، أراد اعتباره في الفواكه، والحبوب، لا في جميع الربويات، فاعرف ذلك .

(فهذه جمل) مفيدة (مقنعة، في تعريف البيع) وما يتعلق به (والتنبيه على ما يشعر التاجر بمثارات الفساد) وطرقه، [ ص: 451 ] (حتى يستفتي فيها فيما إذا استشكل) في شيء من مسائله (والتبس عليه) شيء منها (فإذا لم يعرف هذا) القدر (لم يتفطن لمواضع السؤال) والبحث (واقتحم) أبواب (الربا الحرام) فيهلك (وهو لا يدري) والله الموفق، وهو ولي الإرشاد .




الخدمات العلمية