الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
الآثار روي أن عمر رضي الله عنه كان يمر بالآية من ورده بالليل فيسقط حتى يعاد منها أياما كثيرة كما يعاد المريض وكان ابن مسعود رضي الله عنه إذا هدأت العيون قام فيسمع له دوي كدوي النحل ، حتى يصبح ، ويقال : إن سفيان الثوري رحمه الله شبع ليلة فقال : إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله ، فقام تلك الليلة حتى أصبح وكان طاوس رحمه الله إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة على المقلاة ثم يثب ويصلي إلى الصباح ، ثم يقول : طير ذكر جهنم نوم العابدين وقال الحسن رحمه الله ما نعلم عملا أشد من مكابدة الليل ونفقة هذا المال فقيل له : ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوها ؟ قال لأنهم : خلوا بالرحمن بالرحمن ، فألبسهم نورا من نوره وقدم بعض الصالحين من سفره ، فمهد له فراش ، فنام عليه حتى فاته ورده فحلف أن لا ينام بعدها على فراش أبدا وكان عبد العزيز بن رواد إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمر يده عليه ويقول : إنك للين ووالله ، إن في الجنة لألين منك ولا يزال يصلي الليل كله وقال الفضيل إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن فأصبح وما قضيت نهمتي وقال الحسن إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل وقال الفضيل إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك وكان صلة بن أشيم رحمه الله يصلي الليل كله ، فإذا كان في السحر قال : إلهي ليس مثلي يطلب الجنة ، ولكن أجرني برحمتك من النار وقال رجل لبعض الحكماء : إني لأضعف عن قيام الليل فقال له : يا أخي ، لا تعص الله تعالى ولا تقم بالليل وكان للحسن بن صالح جارية فباعها من قوم ، فلما كان في جوف الليل قامت الجارية ، فقالت : يا أهل الدار الصلاة الصلاة فقالوا : أصبحنا أطلع ؟ الفجر ؟ فقالت : وما تصلون إلا المكتوبة قالوا: نعم ؟ : فرجعت إلى الحسن ، فقالت : يا مولاي بعتني من قوم لا يصلون إلا المكتوبة ، ردني ، فردها وقال الربيع بت في منزل الشافعي رضي الله عنه ليالي كثيرة ، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا

التالي السابق


(ومن الآثار) الدالة على فضيلة قيام الليل (أن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- كان يمر بالآية) الواحدة (من ورده من الليل) أي في صلاته (فيسقط) دهشا (حتى يعاد منها أياما كثيرة) مما اعتراه من الخوف (كما يعاد المريض) .وفي "القوت " قد كان عمر يغشى عليه حتى يقع من ذي قيام، ويضطرب كالبعير. (وكان) عبد الله ( ابن مسعود ) -رضي الله عنه- (إذا هدأت العيون) أي: نامت (قام) إلى ورده من الليل (فيسمع له دوي) أي: هيمنة وحركة (كدوي النحل، حتى يصبح، ويقال: إن سفيان) بن سعيد (الثوري) -رحمه الله تعالى - (شبع ليلة فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، فقام تلك الليلة) يصلي (حتى أصبح) ، وفي "القوت " في باب رياضة المريدين: كان سفيان الثوري إذا شبع في ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يتمثل ويقول: أشبع الزنجي وكده. ومرة يقول: أشبع الحمار وكده، وإذا جاع كأنه يتراخى في ذلك. (وكان طاوس) بن كيسان اليماني، وأبو عبد الرحمن روى عن أبي هريرة وابن عياض وعائشة ، وعنه التميمي، وابنه عبد الله قيل: اسمه ذكوان، ولقب به لأنه كان طاوس القراء، وما رؤي مثله، روى له الجماعة (إذا اضطجع على فراشه يتقلى عليه كما تتقلى الحبة في المقلاة) أي: اضطرب عليه ولم يرتح (ثم يثب) قائما، ويدرج الفراش (ويصلي إلى الصباح، ثم يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين) ، وكلما هم يذوق الكرى، قال له القرآن: قم لا تنم. نقله ابن الجوزي هكذا، قال ابن حبان: كان طاوس من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، توفي سنة ست ومائة بمنى، وقد حج أربعين حجة .

(وقال الحسن) البصري -رحمه الله تعالى -: (ما نعلم عملا أشد من مكابدة الليل) أي: بالصلاة فيه (ونفقة هذا المال) أي: صرفه إلى وجوه الخير، (فقيل له: ما بال المجتهدين) في العبادة (أحسن الناس وجوها؟ قال: إنهم خلوا بالرحمن تعالى، فألبسهم نورا من نوره) ويشهد له ما اشتهر على الألسنة: من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار، وسيأتي الكلام عليه في آخر الباب .

(وقدم بعض الصالحين من سفر، فمهد له فراش، فنام عليه حتى فاته ورده) من الليل (فحلف أن لا ينام بعده على فراش أبدا) عاقب نفسه بذلك تأديبا لها، (وكان عبد العزيز) بن عثمان بن جبلة (بن أبي رواد) الأزدي أبو الفضل المروزي، لقبه شاذان، وهو أخو عبدان، ذكره ابن حبان في الثقات، روى له البخاري والنسائي (إذا جن عليه الليل يأتي فراشه فيمر يده عليه ويقول: إنك للين، والله إن في الجنة لألين منك) ثم لا ينام عليه (فلا يزال يصلي الليل كله) حتى يصبح .

(وقال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى - (إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله فأفتتح القرآن) أي: في الصلاة (فأصبح) أي: أدخل في الصبح (وما قضيت نهمتي) أي: حاجتي منه. نقله صاحب "القوت" .

(وقال الحسن) البصري -رحمه الله تعالى -: (إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل و) في هذا المعنى (قال الفضيل) بن عياض -رحمه الله تعالى -: (إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم) من الخير لا نصيب لك فيه (وقد كثرت خطيئتك) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " فقال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا الفضل بن محمد الجندي، حدثني إسحاق بن إبراهيم الطبري، قال: سمعت الفضيل يقول: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، مكبل، كبلتك خطيئتك، (وكان) أبو الصهباء (صلة بن أشيم) العدوي تابعي جليل روى عن عدة من الصحابة منهم: ابن عباس (يصلي الليل كله، فإذا كان في السحر يقول: إلهي ليس مثلي يطلب الجنة، ولكن أجرني برحمتك من النار) قال أبو نعيم في " الحلية ": حدثنا أبو محمد بن حيان [ ص: 189 ] قال: حدثت عن عبد الله بن جنيق، أخبرني نجدة بن المبارك، حدثني مالك بن مغول: كان بالبصرة ثلاثة متعبدون صلة بن أشيم وكلثوم بن الأسود ورجل آخر، فكان صلة إذا كان الليل خرج إلى أجمة يعبد الله فيها، ففطن له رجل فقام له في الأجمة لينظر إلى عبادته، فإذا سبع، فبصر به صلة، فأتاه فقال: قم أيها السبع فابتع الرزق، فتمطى السبع في وجهه وذهب، ثم قام لعبادته، فلما كان في السحر قال: اللهم إن صلة ليس أهلا أن يسألك الجنة، ولكن سترا من النار .

قال: وحدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا علي بن إسحاق، حدثنا الحسين بن الحسن، حدثنا عبد الملك بن المبارك، حدثنا المسلم بن سعيد الواسطي، حدثنا حماد بن جعفر بن زيد أن أباه أخبره قال: خرجنا في غزاة إلى كابل، وفي الجيش صلة بن أشيم، قال: فنزل الناس عند العتمة، فقلت: لأرمقن عمله، فأنظر ما يذكر الناس من عبادته، فصلى أراه العتمة ثم اضطجع، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون، وثبت، فدخل غيضة قريبا منا، فدخلت في أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، فافتتح الصلاة قال: وجاء أسد حتى دنا منه، قال: فصعدت في شجرة، قال: أفتراه التفت إليه أو عذبه حتى سجد، فقلت: الآن يفترسه فلا شيء فيسلم ثم سلم، فقال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر، فولى، فإن له زئيرا أقول تصدع منه الجبال، فما زال كذلك يصلي حتى لما كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع مثلها إلا ما شاء الله، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار أومثلي يجترئ أن يسألك الجنة، ثم رجع، فأصبح كأنه بات على الحشايا، وقد أصبحت وبي من الفتور شيء الله به عليم .

(وقال رجل لبعض الحكماء: إني لأضعف عن قيام الليل) يعني: فما السبب في ذلك؟ وما دواؤه؟ (فقال: يا أخي، لا تعص الله بالنهار ولا تقم بالليل) يعني: شؤم ذنوبك هو الذي يمنعك من قيام الليل (وكان للحسن بن صالح) بن مسلم بن حي الهمداني الثوري أبي عبد الله الكوفي العابد، أخو علي بن صالح ثقة .

قال أبو زرعة: اجتمع فيه إتقان، وفقه، وعبادة، وزهد، وكان كثير البكاء إذا ذكر عنده الموت، ولد سنة مائة ومات سنة تسع وستين ومائة، ذكره البخاري في كتاب الشهادات، وروى له الباقون، (جارية فباعها من قوم، فلما كان في جوف الليل قامت الجارية، فقالت: يا أهل الدار الصلاة الصلاة) أي: قوموا للصلاة (فقالوا: أصبحنا ؟ طلع الفجر ؟) بحذف همزة الاستفهام فيهما، (فقالت: وما تصلون إلا المكتوبة؟ فقالوا: لا) أي: لا نصلي إلا المكتوبة، (فرجعت) الجارية (إلى الحسن، فقالت: يا مولاي بعتني من قوم لا يصلون بالليل، ردني، فردها) منهم إليه. (وقال الربيع) بن سليمان المرادي، تقدمت ترجمته في كتاب العلم: (بت في منزل الشافعي -رضي الله عنه- ليالي كثيرة، فلم يكن ينام من الليل إلا يسيرا) أي: قليلا، وقد تقدم قسمته الليل، وهذا القول قد تقدم في مناقبه في كتاب العلم .




الخدمات العلمية