الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
وفي التوصل إلى الولد قربة من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزبا .

الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان .

والثاني طلب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تكثير من مباهاته .

والثالث طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده .

والرابع طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله .

أما الوجه الأول فهو أدق الوجوه وأبعدها عن إفهام الجماهير وهو أحقها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالى ومجاري حكمه .

وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده البذر وآلات الحرث وهيأ له أرضا مهيأة للحراثة وكان العبد قادرا على الحراثة ووكل به من يتقاضاه عليها فإن تكاسل وعطل آلة الحرث وترك البذر ضائعا .

حتى فسد ودفع الموكل عن نفسه بنوع من الحيلة كان مستحقا للمقت والعتاب من سيده .

والله تعالى خلق الزوجين وخلق الذكر والأنثيين وخلق النطفة في الفقار وهيأ لها في الأنثيين عروقا ومجاري وخلق الرحم قرارا ومستودعا للنطفة وسلط متقاضى الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق في الإعراب عن مراد خالقها وتنادى أرباب الألباب بتعريف ما أعدت له .

هذا إن لم يصرح به الخالق تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالمراد حيث قال : " تناكحوا تناسلوا " فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر ؟ فكل ممتنع عن النكاح معرض عن الحراثة مضيع للبذر معطل لما خلق الله من الآلات المعدة وجان على مقصود الفطرة والحكمة المفهومة من شواهد الخلقة المكتوبة على هذه الأعضاء بخط إلهي ليس برقم حروف وأصوات يقرؤه كل من له بصيرة ربانية نافذة في إدراك دقائق الحكمة الأزلية ولذلك عظم الشرع الأمر في القتل للأولاد وفي الوأد لأنه منع لتمام الوجود وإليه أشار من قال : العزل أحد الوأدين

التالي السابق


(وفي التوصل إلى) حصول (الولد قربة من أربعة أوجه هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة) ومهلكاتها (حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزبا) أي: بلا زوجة .

(الأول) من الوجوه: (موافقة محبة الله تعالى بالسعي في تحصيل الولد لبقاء جنس الإنسان) ، فإذا علم العبد أن الله عز وجل أحب ذلك فليسع في تحصيل موافقته لهذه المحبة ليكون ملحوظا بسر يحبهم ويحبونه .

(والثاني) من الوجوه: (طلب محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تكثير من به مباهاته) مع الأنبياء والأمم السالفة، ولا يتم الوجه الأول إلا بتكميل الوجه الثاني فإنه منوط به، وإذا راعى الوجه الثاني ربما تيسر له الوجه الأول ولو لم يلاحظه .

(والثالث) من الوجوه: (طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده) أي: بعد موته كما جاء في الخبر: أو ولد صالح يدعو له، وقد تقدم .

(والرابع) من الوجوه: (طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله) فإنه يكون فرطا وذخيرة كما سيأتي، (أما الوجه الأول فهو أدق الوجوه وأبعدها) غورا (عن أفهام الجماهير) جمع جمهور وهم الأكثرون من أهل العلم والمعرفة، (وهو أحقها وأقواها عند ذوي البصائر النافذة في عجائب صنع الله تعالى ومجاري حكمه) الخفية ويستدعي ذلك إلى إيضاح وكشف (وبيانه أن السيد إذا سلم إلى عبده) تحت رقه وطاعته (البذر وآلات الحرث) مما يحتاج الحارث إليه من حديد وخشب وحبال وبهائم (وهيأ له أرضا مهيأة للحراثة) بأن كانت مسقية، (وكان العبد) المذكور (قادرا على الحراثة) والبذر (ووكل به من يتقاضاه) ويطالبه (عليها) كالمعين عليه، (فإن تكاسل) هذا العبد عن الخدمة (وعطل آلة الحرث) عن استعمالها (وترك البذر ضائعا حتى فسد) وتلف (ودفع الموكل) الذي هو عين عليه يتقاضاه (عن نفسه بنوع من الحيلة كان) ذلك العبد لا محالة (مستحقا للمقت) والتأديب (والعتاب من سيده) حسبما يليق بحاله، (والله تعالى خلق الزوجين) أي: الصنفين من كل جنس (وخلق الذكر والأنثى) من كل نوع، هكذا في النسخ، وفي بعضها خلق الزوجين الذكر والأنثى، وهذا موافق لما في القرآن، وفي أخرى: خلق الزوجين وخلق الذكر والأنثيين، وهذا أشبه بالصواب (وخلق النطفة في الفقار) أي: فقرات ظهر الذكر (وهيأ لها في الأنثيين) مثنى الأنثى أي: الخصيتين (عروقا) تتحلب فيها، (ومجاري) تسيل منها (وخلق الرحم قرارا ومستودعا للنطفة وسلط متقاضي الشهوة على كل واحد من الذكر والأنثى) وتحقيق هذا المقام يستدعي معرفة تشريح فقرات الظهر والعضلات والعروق التي هي مجاري النطفة وتشريح الرحم؛ ليتضح ما أشار إليه المصنف على طريق الإجمال، فاعلم أن فقرات الظهر اثنتا عشرة فقرة، والفقرة عظم في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع، فيتصل كل واحدة بصاحبتها من قدام برباطات، ومن خلف بزوائد تدخل من كل في الأخرى، وعظم الفخذ له زوائد شوكية وشاخصة إلى الفوق، وأسفل يتصل به عظما الوركين من جانبيه عن يمينه وعن شماله، ولكل أربعة أجزاء يقال للذي في جنبه منها عظم الخاصرة، وللذي من قدامه عظم العانة، وللذي من خلفه عظم الورك، وللجزء الباطن المجوف حق الفخذ ومنفعتها حفظ ما وضع عليها من المثانة والرحم والمقعدة والمعى المستقيم وأوعية المني في الذكور وجملة ما للبدن من الحركات الإرادية سبع عشرة حركة، ذكروا منها حركة القضيب، وأما العضلات البدنية فجملتها خمسمائة وسبع وعشرون عضلة منها أربع للأنثيين في الذكورية وثنتان للأنوثة، ومنفعتهما جذب الأنثيين إلى فوق لئلا يتدليا أو يسترخيا، ولذلك كانت في الذكورة أربعة لأن بيضتي الذكورة معلقتان، وكفى في الأنوثة اثنتان لأنهما داخلتان، ومنها أربع تحرك الذكر ثنتان ممدودتان من جانبي المجرى النافذ في العصب، فإذا تمددتا حين الجماع مدتا المجرى فيتسع ويقوم مستقيما فينفذ فيه المني ويخرج [ ص: 294 ] كما ينبغي، وثنتان منشؤهما عظم العانة متصلتان بأصل القضيب على الوارب، فإذا تحركتا باعتدال امتد القضيب مستقيما من غير ميل إلى جانب فيبقى مجراه مستقيما وإن تمددتا خارجا عن الاعتدال ارتفع القضيب فوق، وإن تحركت إحداهما مال القضيب إلى جانبه، وأما الأنثيان فإنهما آلتا المني ومعدناه إذ المني ينزل إليهما من جميع الأعضاء من كل عضو جزء وهو فضلة الهضم الرابع وهو دم في غاية النضج، ويوجد فيه من طبيعة جميع الأجزاء، فإذا نزل إلى هذا العضو ابيض وصار منيا، وذلك أنه ينزل من الصفاد مجريان يشبهان البرنجين ثم يتشعبان فيكون منه الطبقة الداخلة من كيس الأنثيين وفيهما الأنثيان وتجيء إلى ناحية البيضتين من أقسام العروق والشرايين السفلة شعب وأوعية هي الأوردة المتلففة المحشوة الخلل بلحم غددي الموضوعة بقرب الأنثيين الآتية من الكلية إليهما، ومن الصلب إليها التي تهيئ الدم إلى أن يصير منيا إذا حصل في الأنثيين، ولذلك صار الخصيان يحتلمون ويرمون رطوبة بيضاء فيها بعض المشابهة للمني ويستلذون بها من غير أن تكون منسلة، وللمني من الأنثيين مجريان يفضيان إلى القضيب، وفي القضيب ثلاث مجار؛ مجرى للبول ومجرى للمني ومجرى للودي، ويكون الانتشار بامتلاء تجاويفه ريحا كثيرة ممدودة لعصب الذكر يسوقها روح كثيرة شهوانية ويصحبها دم كثير، ولذلك يجمد ويثقل ويعين على الانتشار كل ما فيه رطوبة فضلية تتولد منها ريح غليظة في العروق، والشهوة سببها كثرة المني أو حدته فتشوق الطبيعة إلى دفعه أو كثرة ريح تنفخ الذكر أو نظر إلى مستحسن أو تخليه، وأما الرحم الذي هو موضع تولد الولد فهو موضوع فيما بين المثانة والمعى المستقيم وشكله كالقضيب المقلوب وهو بمنزلة كيس من الأنثيين، وهو من المرأة بمنزلة الذكر من الرجل إلا أنه مجوف مقلوب وطول عنقه المعتدل ما بين ستة أصابع إلى إحدى عشرة أصبعا، وهو يقصر ويطول باستعمال الجماع وتركه، وهو مربوط برباطات سلسة متصلة بخرز الظهر وبجانب السرة والمثانة وهو في نفسه عصبي يمتد ويتسع عند الحاجة إلى ذلك كما عند الحمل وينضم ويتقلص عند الاستغناء كما عند الوضع، وله زائدتان يسميان قرني الرحم وخلف هاتين الزائدتين بيضتا المرأة، وهما أصغر من بيضتي الرجل وينصب منهما مني المرأة إلى تجويف الرحم، ولكل منهما غشاء على انفراده وهما موضوعان على جانبي الفرج، وأوعية المني كما في الرجال وهو ذو طبقتين الباطنية فيها فوهات عروق كثيرة وتسمى فقر الرحم وبها تتصل أغشية الجنين، ومنها يسيل الطمث، ومنها يغتذي الجنين، وكل من الطبقتين ينقبض وينبسط، ورقبة عضلية اللحم وهو لحم ممزوج بالغضروف فهو أصلب من سائر اللحوم، وفيه مجرى محاذ لفم الرحم الخارج منه يبتلع المني ويقذف الطمث ويلد الجنين ويكون في حال الحمل في غاية الضيق حتى لا يدخله الميل، وعند الولادة يتسع فسبحان اللطيف الخبير المدبر الحكيم لا إله غيره جل جلاله وعلا شأنه .

(فهذه الأفعال والآلات تشهد بلسان ذلق) بفتح الذال المعجمة وسكون اللام أي: فصيح (في الإعراب) أي: الإفصاح (عن مراد خالقها) جل وعز (وتنادي أرباب الألباب بتعريف ما أعدت له) أي: هيئت (هذا لو لم يصرح به الخالق) تعالى، وفي بعض النسخ: هذا إن لم يصرح به الخالق (على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالمراد حيث قال: " تناكحوا تكاثروا") أي: لكي تكثروا..، إلى آخر الحديث الذي تقدم ذكره قريبا. (فكيف وقد صرح بالأمر وباح بالسر ؟) وهو -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، (فكل ممتنع عن النكاح) من غير عذر شرعي (هو معرض عن الحراثة) الإلهية (مضيع للبذر) الموهوب (معطل لما خلق له من الآلة المعدة) أي: المهيأة لذلك. وفي بعض النسخ لما كلف من الآلة المعدة (وجان على مقصود الفطرة) الإلهية التي فطر الناس عليها، (و) جان على مقصود (الحكمة) المخفية (المفهومة من شواهد الخلقة) المبرزة على غاية الإحكام والإتقان (المكتوبة على هذه الأعضاء) الدالة على معاني الأسرار (بخط إلهي ليس برقم حروف) أبجدية (وأصوات) مقطعة (يقرؤه) أي: ذلك الخط (كل من له بصيرة ربانية نافذة في إدراك دقائق الحكمة الأزلية) ويعمل بمقتضاه (ولذلك عظم [ ص: 295 ] الشرع في الأمر في القتل للأولاد في الوأد) والمراد بالأولاد الإناث، وقد وأد ابنته وأدا من باب وعد إذا دفنها حية فهي موءودة، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك لجهلهم بالحكمة الإلهية (لأنه منع لتمام الوجود) ومنه قوله تعالى: وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت (وإليه أشار من قال: العزل أحد الوأدين) وهو صرف المني عن المرأة خوف الحمل وهو معنى قول ابن عباس: هو الموءودة الصغرى لأنه بوجود العزل يعدم فضل النكاح، إذ كان العبد سبب عدمه؛ لأنه لم يفعل ما يتأتى منه الولد، فذهب فضله، وحسب عليه قتله، وقالوا أيضا: العزل دقيقة من الشرك لأن أهل الجاهلية كان سبب قتلهم بناتهم معاني: أحدها خشية العار بهن، ومنها كراهة الإنفاق عليهن، ومنها الشح وخوف الفقر والإملاق، وكانوا من مات له البنون وعاش له البنات سموه أبتر وذموه بذلك، وكانوا يقولون: من كن له إحدى الحربات الثلاث لم يسد قومه، يعنون بهن: الأم والأخت والبنت، فقد توجد هذه المعاني كلها أو بعضها .




الخدمات العلمية