الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ومن الآداب : أن لا يعزل بل لا يسرح إلا إلى محل الحرث وهو الرحم ، فما من نسمة قدر الله كونها إلا وهي كائنة .

هكذا قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم فإن عزل فقد اختلف العلماء في ، إباحته ، وكراهته ، على أربع مذاهب ، فمن مبيح مطلقا بكل حال ومن محرم بكل حال ومن قائل : يحل برضاها ولا يحل دون رضاها وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء ، دون العزل ، ومن قائل : يباح في المملوكة دون الحرة .

والصحيح عندنا : أن ذلك مباح وأما الكراهية فإنها تطلق لنهي التحريم ، ولنهي التنزيه ، ولترك الفضيلة ، فهو مكروه بالمعنى الثالث ، أي : فيه ترك فضيلة كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو ، صلاة ويكره للحاضر في مكة ، مقيما بها ، أن لا يحج كل سنة والمراد بهذه الكراهية : ترك الأولى والفضيلة ، فقط ، وهذا ثابت ; لما بيناه من الفضيلة في الولد ; ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : إن الرجل ليجامع أهله فيكتب له بجماعه أجر ولد ذكر ، قاتل في سبيل الله فقتل .

وإنما قال ذلك ; لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه ، مع أن الله تعالى خالقه ، ومحييه ، ومقويه على الجهاد ، والذي إليه من التسبب فقد فعله ، وهو الوقاع ، وذلك عند الإمناء في الرحم .

وإنما قلنا لا كراهة بمعنى التحريم ، والتنزيه ، لأن إثبات النهي إنما يمكن بنص ، أو قياس على منصوص ولا نص ، ولا أصل يقاس عليه ، بل ههنا أصل يقاس عليه ، وهو ترك النكاح أصلا ، أو ترك الجماع بعد النكاح ، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج ، فكل ذلك ترك للأفضل وليس بارتكاب نهي ، ولا فرق ، إذ الولد يتكون بوقوع النطفة في الرحم ولها أربعة أسباب النكاح ثم الوقاع ثم الصبر إلى الإنزال بعد الجماع ثم الوقوف لينصب المني في الرحم وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض فالامتناع ، عن الرابع كالامتناع عن الثالث وكذا الثالث كالثاني ، والثاني كالأول ، وليس هذا كالإجهاض ، والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل ، وله أيضا مراتب وأول ، مراتب الوجود : أن تقع النطفة في الرحم وتختلط ، بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة وإفساد ذلك جناية فإن صارت مضغة ، وعلقة كانت الجناية أفحش وإن ، نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ، ازدادت الجناية تفاحشا ، ومنتهى التفاحش في الجناية : بعد الانفصال حيا .

وإنما قلنا : مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني في الرحم لا من حيث الخروج من الإحليل لأن الولد لا يخلق من مني الرجل وحده بل من الزوجين جميعا ، إما من مائه ومائها أو من مائه ودم الحيض ، قال بعض أهل التشريح إن المضغة تخلق بتقدير الله من دم الحيض ، وإن الدم منها كاللبن من الرائب وإن النطفة ، من الرجل شرط في خثور دم الحيض ، وانعقاده كالأنفحة ، للبن ، إذ بها ينعقد الرائب وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد ، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول ، في الوجود الحكمي في العقود فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض ، والفسخ ومهما اجتمع الإيجاب والقبول كان الرجوع بعده رفعا ، وفسخا ، وقطعا ، وكما أن النطفة في الفقار لا يتخلق منها الولد فكذا بعد الخروج من الإحليل ما لم يمتزج بماء المرأة ودمها ، فهذا هو القياس الجلي .

، فإن قلت : فإن لم يكن العزل مكروها من حيث أنه دفع لوجود الولد فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه ، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة ، فيها شيء من شوائب الشرك الخفي فأقول النيات الباعثة على العزل خمس .

: الأولى : في السراري وهو : حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق العتاق وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق ودفع ، أسبابه ، ليس بمنهي عنه .

الثانية : استبقاء جمال المرأة وسمنها ، لدوام التمتع واستبقاء حياتها ، خوفا من خطر الطلق وهذا أيضا ليس منهيا عنه .

الثالثة : الخوف من كثرة الحرج بسبب كثرة الأولاد ، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب ودخول مداخل السوء وهذا أيضا غير منهي عنه ، فإن قلة الحرج ، معين على الدين ، نعم ، الكمال والفضل في التوكل والثقة بضمان الله حيث قال وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ولا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال ، وترك الأفضل ولكن النظر إلى العواقب وحفظ المال ، وادخاره مع كونه مناقضا للتوكل لا نقول إنه منهي عنه .

الرابعة : الخوف من الأولاد ، الإناث لما يعتقد في تزويجهن من المعرة كما كانت من عادة العرب في قتلهم الإناث فهذه نية فاسدة لو ترك بسببها أصل النكاح ، أو أصل الوقاع ، أثم بها ، لا بترك النكاح ، والوطء ، فكذا في العزل ، والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا من أن يعلوها رجل فكانت ، تتشبه بالرجال ولا ، ترجع الكراهة إلى عين ترك النكاح .

التالي السابق


(ومن الآداب: أن لا يعزل) في جماعه، [ ص: 379 ] بأن يصب ماءه خارج الفرج (بل يسرح الماء إلى محل الحرث) والزراعة (وهو الرحم، فما من نسمة كائنة قدر الله كونها إلا وهي كائنة، هكذا قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم) قال العراقي: متفق عليه، من حديث أبي سعيد، قلت: ولفظه عندهما: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العزل؟ فقال: أوإنكم لتفعلون؟ قالها ثلاثا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة. وعند مسلم أيضا من حديثه: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإنما هو القدر. (وإن عزل فقد اختلف العلماء في ذلك، في إباحته، وكراهته، على أربع مذاهب، فمن مبيح مطلق بكل حال) سواء الحرة والمملوكة (ومن محرم بكل حال) أي: مطلقا، وهو مذهب الظاهرية، وإحدى الروايتين عن أحمد (ومن قائل: يحل برضاها) أي: الزوجة (ولا يحل بدون رضاها) وهو مذهب الحنفية (وكأن هذا القائل يحرم الإيذاء، دون العزل، ومن قائل: يباح في المملوكة دون الحرة) إلا برضاها، وهذا مذهب المالكية.

ولنسق نصوص المذاهب: قال أصحاب مالك: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، ولا عن الزوجة الأمة إلا بإذن سيدها، بخلاف السراري، هذه عبارة ابن الحاجب في مختصره، وقال ابن عبد البر في التمهيد: خلاف بين العلماء، أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها; لأن الجماع من حقها، ولها المطالبة له، وقال في الأمة المملوكة: لا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه يجوز العزل عنها بغير إذنها. قلت: وفي نفي الخلاف في الأولى، والإطلاق في الثانية نظر; لما سيأتي في بيان مذهب الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز العزل عن مملوكته بغير إذنها، ولا يجوز عن زوجته الحرة إلا بإذنها، فإن كانت الزوجة أمة: فقال أبو حنيفة: الإذن في العزل إلى المولى، وقال أبو يوسف، ومحمد: بل إلى الزوجة، وقال الحنابلة، وهذه عبارة المحرر لابن تيمية: له العزل عن سريته، ولا يباح عن زوجته الحرة إلا بإذنها، وإن كانت أمة لم يبح إلا بإذن سيدها، نص عليه. وقيل: بل بإذنهما. وقيل: لا يباح العزل بحال. وقيل: يباح بكل حال. وفي المحلى لابن حزم الظاهري: لا يحل العزل عن حرة، ولا أمة مطلقا، واستدل بحديث جذامة بنت وهب عند مسلم: ذلك الوأد الخفي. ونقل عن أبي أمامة الباهلي: أنه سئل عن العزل؟ فقال: ما كنت أرى مسلما يفعله، وعن عمر، وعثمان: أنهما كانا ينكران العزل. قال: وصح أيضا عن الأسود بن يزيد، وطاوس.

(والصحيح عندنا: أن ذلك مباح) وتقريره أن النساء أقسام:

*أحدها: الزوجة الحرة، وفيها طريقان: أظهرهما: أنها إن رضيت جاز، وإلا فوجهان، أصحهما عند المصنف، والرافعي، والنووي: الجواز. والطريق الثاني: إن لم تأذن لم يجز، وإن أذنت فوجهان. *الثاني: الزوجة الأمة، وهي مرتبة على الحرة، إن جوزناه فيها، ففي الأمة أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: الجواز، تحرزا عن رق الولد .

*الثالث: الأمة المملوكة، يجوز العزل عنها، قال المصنف، والرافعي، والنووي: بلا خلاف، لكن حكى الروياني في البحر وجها أنه لا يجوز، لحق الولد .

*الرابع: المستولدة، قال الرافعي: رتبها مرتبون على المنكوحة الرقيقة، وهي أولى بالمنع; لأن الولد حر، وآخرون: على الحرة، والمستولدة أولى بالجواز; لأنها ليست راسخة في الفراش; ولهذا لا تستحق القسم. قال الرافعي: وهذا أظهر، هذا التفصيل مذهب الشافعي، وحاصله: الفتوى بالجواز مطلقا، ولو بغير إذنها .

(وأما الكراهة) وهي الخطاب المقتضي للترك، اقتضاء غير جازم، بنهي مخصوص (فإنها) تطلق بإزاء ثلاث معان (لنهي التحريم، ولنهي التنزيه، ولترك الفضيلة، فهو) أي: العزل، على قول من يقول بكراهته (مكروه بالمعنى الثالث، أي: فيه ترك فضيلة) لا بالمعنى الأول والثاني (كما يقال يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا) بطالا (ولا يشتغل بذكر، ولا صلاة) فإن كلا منهما فضيلة، في حد نفسها، فتاركهما تارك فضيلة (و) كما يقال (يكره للحاضر في مكة، مقيما بها، أن لا يحج كل سنة) فإن تكرار الحج في كل سنة لأهل مكة فضيلة، وتاركه من غير عذر تارك فضيلة (والمراد بهذه الكراهة: ترك) ما هو (الأولى، و) ترك (الفضيلة فقط، وهذا ثابت; لما بينا من الفضيلة في الولد; ولما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن الرجل ليجامع أهله) أي: حليلته (فيكتب له من جماعه) ذلك (أجر ولد ذكر، قاتل في سبيل الله فقتل) قيل: كيف ذلك يا رسول الله؟ فقال: أنت خلقته؟ أنت رزقته؟ أنت هديته؟ عليك محياه؟ عليك مماته؟ قالوا: بل الله خلقه، وهداه، وأحياه، وأماته، قال: فأقر قراره، هكذا هو في القوت بتمامه، [ ص: 380 ] وقال العراقي: لم أجد له أصلا، اهـ. قلت: بل له أصل، من حديث أبي ذر، يقول فيه، في أثناء حديث، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فضعه في حلاله، وجنبه حرامه، وإقراره، فإن شاء الله أحياه، وإن شاء أماته، ولك أجر. أخرجه ابن حبان في صحيحه، مستدلا به على تحريم العزل (وإنما قال ذلك; لأنه لو ولد له مثل هذا الولد لكان له أجر التسبب إليه، مع أن الله تعالى خالقه، ومحييه، ومقويه على الجهاد، والذي إليه من التسبب فقد فعله، وهو الوقاع، وذلك عند الإمناء في الرحم) ولفظ القوت بعد إيراد الحديث المتقدم: المعنى في هذا أنه يقول: إذا جامعت فأمنيت في الفرج، وقد قال الله تعالى: أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، فإذا لم يخلق الله من منيك خلقا حسب ذلك كأنه قد خلق ذكر على أتم أحواله، وأكمل أوصافه، بأن يقاتل في سبيل الله، فيقتل; لأنك قد جئت بالسبب الذي عليك، وليس عليك خلقه، ولا هدايته، وإنما تعذر ذلك من عدم مشيئة الله، وفعله مجردا، وكان لك كأجر ما لو فعل الله، إذ قد أتيت بما يمكنك، اهـ .

(وإنما قلنا لا كراهة) في العزل (بمعنى التحريم، والتنزيه، لأن إثبات النهي) عن شيء (إنما يمكن بنص، أو قياس على منصوص) بأن يلحق به في حكمه; لمساواة الأول للثاني في علة حكمهما (ولا نص، ولا أصل) في التحريم، أو التنزيه (يقاس عليه، بل ما هنا أصل يقاس عليه، وهو ترك النكاح أصلا، أو ترك الجماع بعد النكاح، أو ترك الإنزال بعد الإيلاج، فكل ذلك ترك للأفضل) ; إذ لا يجب عليه النكاح إلا عند وجود شروطه، فإذا تزوج لا يجب عليه إلا المبيت والنفقة، فإذا جامع لا يجب عليه أن ينزل، فترك كل ذلك إنما هو ترك للفضيلة (وليس بارتكاب نهي، ولا فرق، إذ الولد يتكون) أي: يتهيأ للتكوين، بعد أن لم يكن (بوقوع النطفة في الرحم) واستقرارها فيه، بالشروط المذكورة في هيئة الجماع (ولها أربعة أسباب) : الأول: (النكاح) أي: التزويج (ثم الوقاع) أي: الجماع (ثم الصبر إلى الإنزال) خرج به ما لو لم يصبر، بأن أنزل بمجرد التقاء الختانين (ثم الوقوف) أي: المكث (لينصب الماء في الرحم) وذلك بأن يتلاقى الماءان معا، أو أحدهما متقدم والثاني متأخر (وبعض هذه الأسباب أقرب من بعض، والامتناع عن) السبب (الرابع) الذي هو الوقوف (كالامتناع من) السبب (الثالث) الذي هو الصبر (وكذا الثالث كالثاني، والثاني كالأول، وليس هذا كالاستجهاض، والوأد) أما الوأد: فكما تقدم، دفن البنت حية، وأما الاستجهاض: فهو إلقاء المرأة جنينها قبل أن يستبين خلقه; (لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله) أي: الموجود الحاصل (أيضا مراتب، وأقل مراتب الوجود: أن تقع النطفة في الرحم، ولا تختلط بماء المرأة) لعدم اتفاق الماءين، أو لعدم إنزال المرأة، بأن قام عنها سريعا (فإفساد ذلك جناية) أي: نوع من الجناية (فإن صارت) النطفة (مضغة، وعلقة) إذا انتقل المني بعد طوره فصار ماء غليظا، متجمدا، فهي علقة، فإذا انتقل طورا آخر، فصار لحما، فهو المضغة; سميت بذلك لأنها مقدار ما يمضغ (كانت الجناية أفحش، فإن نفخ فيها الروح) بعد استكمالها تسعين يوما، إن كان ذكرا، أو مائة وعشرين يوما، إن كانت أنثى (واستوت الخلقة، ازدادت الجناية تفاحشا، ومنتهى التفاحش في الجناية: بعد الانفصال حيا) فإذا تسبب حينئذ لإهلاكها، فقد تكاملت عليه الجنايات، وتفاحشت (وإنما قلنا: مبدأ سبب الوجود من حيث وقوع المني) من الرجل (في الرحم) أي: رحم المرأة، بأي وجه كان، وإنما قلنا ذلك، لأنه قد يتفق أن المرأة تقعد في الحمام على بلاطه المسخن، وقد كان عليه بعض شيء من مني الرجل، فيسخن فم الرحم، وتستلذ، فيجذب فم الرحم ذلك المني المصبوب على البلاط، جذب المغناطيس للحديد، ثم يطبق عليه، فيكون ذلك سببا لحملها، وقد وقعت هذه الواقعة في بعض الأزمنة لبعض الأبكار، وعندي: من جهة القواعد، فيه نظر، إذ قد تقدم أنه لا بد للتكون من نزول مائها مع ماء الرجل، أو متقدما عليه، أو متأخرا، وفي الصورة المذكورة ليس كذلك، فتأمل. (لا من حيث الخروج من الإحليل) أي: رأس الذكر (لأن الولد لا يخرج من مني الرجل وحده) ولا من منيها وحدها (بل من) مني (الزوجين جميعا، إما من مائه ومائها) إذا تلاقيا [ ص: 381 ] واجتمعا (وإما من مائه ودم الحيض، قال بعض أهل التشريح) من الحكماء: (إن المضغة تتخلق بتقدير الله تعالى من دم الحيض، وإن الدم منها كاللبن من الرائب، والنطفة من الرجل شرط في خثورة دم الحيض، وانعقاده، كالإنفحة للبن، إذ بها ينعقد الرائب) .

اعلم أن الحكماء ذكروا أن المني إما من الأخلاط، عند من يجعله دما نضيحا، وإما من الرطوبات الثانية، عند من يجعله نوعا آخر، وذكروا أن الأعضاء المفردة كلها تتكون من المني، إلا اللحم، فإن الأحمر منه يتولد من متين الدم، ويعقده الحر، واليبس; لتحلل رطوبات الدم، فينعقد، والسمن والشحم يتولد من مائية الدم ودسمه، ويعقدهما البرد; ولذلك يحلهما الحر، إلا أنها على قول أرسطو، يتكون من مني الذكر، كما يتكون الجبن عن الإنفحة، كذلك مبدأ عقد الصورة في مني الذكر، وكما أن كل واحد من الإنفحة واللبن جزء من جوهر الجبن الحادث عنهما، كذلك كل واحد من المنيين جزء من جوهر الحادث عنهما; ولذلك ترى الأولاد يشبهون الأمهات أكثر من الآباء; لأن أساس أعضائهم من مائها، وهذا القول يخالف قول جالينوس، فإنه يرى أن كل واحد من المنيين قوة عاقدة، وقابلة للعقد، ومع ذلك لا يمنع أن نقول: العاقدة في المني الذكري أقوى، والمنعقدة في المني الأنثوي أقوى، وأنه مع اعتقاده أن مني المرأة، العاقدة والمنعقدة، يمتنع من إمكان التكون منه فقط، ويدعي أن القوة العاقدة في مني الأنثى، لا يتم فعلها إلا بمني الذكر .

والحق إمكان التولد في مني الأنثى فقط، لجواز أن يحصل له وحده المزاج الذي به ينعقد للنفس، ولكن يكون ذلك نادرا جدا; لأن مني الأنثى يكون مائلا عن الاعتدال، إلى جهة البرد، والرطوبة .

ثم إن الدم الذي ينفصل في الحيض عن المرأة يصير أكثره غذاء لذلك، ولكن يصلح لأن ينعقد في حشوها، فيكون لحما آخرا، وسمنا، أو شحما، ويملأ الأمكنة بين الأعضاء، ومنه فضل لا يصلح لأحد الأمرين، فيبقى إلى وقت النفاس، وتدفعه الطبيعة فضلا .

وهذا السياق الذي ذكرته من قول الحكماء، يفهم منه، ومن قولهم، الذي نقله المصنف، من أن المضغة تتخلق، إلخ. وأن دم الحائض ليس بحيض; لأن الحمل إن تم، فإن الرحم مشغول به، وما ينفصل عنه من دم، إنما هو رشح غذائه، أو فضلة، أو نحو ذلك، فليس بحيض. وإن لم يتم، وكانت المضغة غير مخلقة، مجها الرحم مضغة مائعة، حكمها حكم الولد، فكيف يكون حكم الولد حيضا؟ وبه قال الكوفيون، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأحمد، والأوزاعي، والثوري، ومال الشافعي في الجديد إلى أن الحامل تحيض، وعن مالك، روايتان، وأقوى حجج الحنفية، ومن قال بقولهم: أن استبراء الأمة اعتبر بالحيض; لتحقق براءة الرحم من الحمل، فلو كانت الحامل تحيض، لم تتم البراءة من الحيض، والله أعلم .

(فماء المرأة ركن في الانعقاد، فيجري الماءان مجرى الإيجاب والقبول، في الوجود الحكمي في العقود) الشرعية (فمن أوجب ثم رجع قبل القبول لا يكون جانيا على العقد بالنقض، والفسخ) إذ قد وقع ذلك منه قبل تمام الركن الثاني (ومهما اجتمع الإيجاب والقبول) من غير تخلل رجوع بينهما (كان الرجوع بعده) أي: الاجتماع (رفعا، وفسخا، وقطعا، وكما أن النطفة) أي: ماء الرجل (في الفقار) أي: فقار ظهره (لا يتخلق منها الولد) أي: لا يتكون (فكذا بعد الخروج من الإحليل) أي: رأس الذكر (ما لم يمتزج بماء المرأة، أو دمها) على القولين المذكورين (فهذا هو القياس الحكمي، فإن قلت: فإن لم يكن العزل مكروها) بل مباحا (من حيث أنه دفع لوجود الولد) كما قرر آنفا (فلا يبعد أن يكره لأجل النية الباعثة عليه، إذ لا يبعث عليه إلا نية فاسدة، فيها شيء من شوائب الشرك الخفي) الذي هو أخفى من دبيب النمل، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء (فأقول) في الجواب: (النيات الباعثة على العزل خمسة: الأولى: في السراري) جمع سرية، بالكسر والضم، خلاف الحرة (وهو: حفظ الملك عن الهلاك باستحقاق الإعتاق) ; لأنه متى أحبلها استحقت العتق، فيكون سببا لهلاك الملك (وقصد استبقاء الملك بترك الإعتاق، ورفع أسبابه، ليس بمنهي عنه) شرعا (الثانية: استبقاء جمال المرأة) وبهجتها (ونشاطها، ونضارة [ ص: 382 ] لونها وسمتها لدوام التمتع) بها، وكذا استبقاء ثدييها عن السقوط (واستبقاء حياتها، خوفا من خطر الطلق) وهو: الوجع الحاصل عند وضعها (وهذا أيضا ليس منهيا عنه، الثالثة: الخوف من كثرة الحرج) والصرف (بسبب كثرة الأولاد، والاحتراز من الحاجة إلى التعب في الكسب) وما يجري مجراه (ودخول مداخل السوء) والتهم بسببه (وهذا أيضا غير منهي عنه، فإن قلة الحرج، معين على الدين، نعم، الكمال والفضل في التوكل) على الله تعالى (والثقة بضمان الله تعالى) لرزقه ورزق أولاده (حيث قال) تعالى: ( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، فلا جرم فيه سقوط عن ذروة الكمال، وترك الأفضل) كما سيأتي بيانه في موضعه من هذا الباب (ولكن النظر للعواقب) في الأمور، والملاحظة فيها (وحفظ المال، وادخاره) لنفسه، أو عياله (مع كونه مناقضا للتوكل) بظاهره (لا نقول أنه منهي عنه) فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- ادخر قوت سنة من تمر خيبر، وهذا البحث أيضا يأتي بيانه في موضعه من هذا الكتاب .

(الرابعة: الخوف من الأولاد، الإناث) خاصة; (لما في تزويجهن من المعرة) والعيب (كما كان من عادة العرب) في الجاهلية الجهلاء (في قتلهم الإناث) وادعائهم جلب المعرة إليهم (فهذه نية فاسدة) من أصلها (لو ترك بسببها أصل النكاح، أو أصل الوقاع، أثم بها، لا بترك النكاح، والوطء، فكذا في العزل، والفساد في اعتقاد المعرة في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد) وأقوى من اعتقادها في غيرها، والنكاح من سنن المرسلين (وينزل منزلة امرأة تركت النكاح استنكافا) وإباء (من أن يعلوها رجل، ولكن تتشبه بالرجال، فلا ترجع الكراهة إذن إلى ترك النكاح) وفي بعض النسخ: إلى غير ترك النكاح .




الخدمات العلمية