الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
ثم بالعزل يمتنع التصرف عن المعزول ، وبالقسمة ينفصل الملك عن الملك والصحيح : أنه يجوز عقد الشركة على العروض المشتراة ولا يشترط النقد بخلاف القراض .

التالي السابق


ومن أحكام الشركة، ما أشار إليه المصنف بقوله: (ثم بالعزل يمتنع التصرف على المعزول، وبالقسمة ينفصل الملك عن الملك) .

اعلم أن الشركة بالمعنى المقصود لهذا الباب إذا تمت، ووجد الإذن من الطرفين، تسلط كل واحد من الشريكين على التصرف، وسبيل تصرف الشريك كسبيل تصرف الوكيل، ثم إنه لكل واحد منهما فسخها متى شاء، فلو قال أحدهما للآخر: عزلتك عن التصرف، أولا تتصرف في نصيبي، انعزل المخاطب، ولا ينعزل العازل عن التصرف في نصيب المعزول .

ولو قال: فسخت الشركة، انفسخ، قال الإمام: وينعزلان عن التصرف; لارتفاع العقد، وأشار إلى ذلك المصنف، مجزوم به، لكن صاحب التتمة ذكر أن انعزالهما مبني على أنه يجوز التصرف بمجرد عقد الشركة أم لا بد من التصريح بالإذن؟ إن قلنا بالأول، فإذا ارتفع العقد انعزلا، وإن قلنا بالثاني، وكانا قد صرحا بالإذن، فلكل واحد منهما التصرف إلى أن يعزلا، وكيف كان فالأئمة مطبقون على ترجيح القول بانعزالهما .

وكما تنفسخ الشركة بالفسخ تنفسخ بموت أحد الشريكين، وجنونه، وإغمائه، كالوكالة، ثم في صورة الموت إن لم يكن على الميت دين، ولا هناك وصية، فللوارث الخيار بين القسمة وتقرير الشركة، إن كان بالغا، رشيدا، وإن كان مولى عليه لصغر أو جنون فعلى وليه ما فيه الحظا والمصلحة من الأمرين، وإنما تقرر الشركة بعقد مستأنف، والله أعلم .

(والثالث: أنه يجوز عقد الشركة على العروض المشتراة) أو الموروثة; لشيوع الملك فيها، وذلك أبلغ من الخلط، بل الخلط إنما اكتفي به; لإفادة الشيوع، فإذا انضم إليه الإذن في التصرف تم العقد; ولهذا قال المزني، والأصحاب: الحيلة في الشركة في العروض [ ص: 476 ] المتقومة أن يبيع كل واحد منهما نصف عرضه بنصف عرض صاحبه، تجانس العرضان، أو اختلفا، ليصير كل واحد منهما مشتركا بينهما، فيتقابضان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، وفي التتمة: أنه يصير العرضان مشتركين، ويملكان التصرف بحكم الإذن، إلا أنه لا تثبت أحكام الشركة في الثمن حتى يستأنفا عقدا وهو ناض، وقضية إطلاق الجمهور ثبوت الشركة وأحكامها على الإطلاق وهو المذهب .

ولو لم يتبايعا العرضين، ولكن باعهما بعرض، أو نقد، ففي صحة البيع قولا تفريق الصفقة، فإن صححنا كان الثمن مشتركا بينهما، إما على التساوي، أو التفاوت، بحسب قيمة العرضين، فيأذن كل واحد منهما للآخر في التصرف .

قال النووي في الزيادات: وإذا باع كل واحد بعض عرض صاحبه، هل يشترط علمهما بقيمة العرضين؟ وجهان، حكاهما في الحاوي، الصحيح: لا يشترط، ومن الحيل في هذا أن يبيع كل واحد بعض عرضه لصاحبه بثمن في ذمته ثم يتقاضى، والله أعلم .

قلت: وقريب من ذلك، قول أصحابنا، قالوا: لو باع كل منهما نصف ماله من العروض بنصف مال الآخر، وعقدا عقد الشركة بعد البيع، جازت الشركة، وصارت شركة عقد; وهذا لأنه بالبيع صار شركة ملك، حتى لا يجوز لكل منهما أن يتصرف في مال الآخر، ثم بالعقد بعد ذلك صار شركة عقد، فيجوز لكل واحد منهما أن يتصرف في نصيب صاحبه، وهذه حيلة لمن أراد الشركة في العروض; لأنه بذلك يصير نصف مال كل واحد منهما مضمونا على صاحبه بالثمن، فيكون الربح الحاصل من المالين ربح ما يضمن، فيجوز، بخلاف إذا لم يبيعا، وحمل بعضهم ما ذكر هنا من بيع نصف ما لكل واحد منهما على ما إذا كانت قيمتهما على السواء، وأما إذا كانت قيمتهما متفاوتة فيبيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة، وهذا الحمل غير محتاج إليه; لأنه يجوز أن يبيع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر، وإن تفاوتت قيمتهما، حتى يصير المال بينهما نصفين، وكذا العكس جائز، وهو ما إذا كانت قيمتهما متساوية، فباعا على التفاوت، فحينئذ قولهم: باع نصف ماله بنصف مال الآخر وقع اتفاقا، أو قصدا، ليكون شاملا للمفاوضة والعنان; لأن المفاوضة شرطها التساوي، بخلاف العنان، وكذا قولهم: بنصف عرض الآخر، وقع اتفاقا; لأنه لو باعه بالدراهم، ثم عقد الشركة في العرض الذي باعه جاز أيضا، والله أعلم .

(ولا يشترط النقد) اعلم أنه لا خلاف في جواز الشركة في النقدين، فأما سائر المتقومات لا يجوز الشركة عليها، وفي المثليات قولان، وقيل: وجهان، أحدهما، المنقول عن رواية البويطي وأبي حنيفة: أنه لا يجوز، كما لا يجوز في المتقومات، وكما لا يجوز القراض إلا في النقدين. وأصحهما، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق: يجوز; لأن المثلي إذا اختلط بجنسه ارتفع معه التمييز، فأشبه النقدين، وليس المثلي كالمتقوم; لأنه لا يمكن الخلط في المتقومات، وربما يتلف مال أحدهما ويبقى مال الآخر، فلا يمكن الاعتداد بتلفه عنهما، وفي المثليات يكون التالف بعد الخلط تالفا عنهما جميعا; ولأن قيمتهما ترتفع وتنخفض، وربما تنقص قيمة مال أحدهما دون الآخر، وتزيد، فيؤدي إلى ذهاب الربح في رأس المال، أو دخول بعض رأس المال في الربح (بخلاف القراض) ; لأن حق العامل محصور في الربح، فلا بد من تحصيل رأس المال لتوزيع الربح، وفي الشركة لا حاجة، بل كل المال موزع عليهما على قدر ماليهما، ولفظ النقد عند الإطلاق يعني به الدراهم، والدنانير المضروبة، وأما غير المضروبة من التبر، والحلي، والسبائك، فقد أطلقوا منع الشركة فيها، وبمثله أجاب القاضي الروياني في الدراهم المغشوشة، وحكى فيها خلاف أبي حنيفة، وذكر أن الفتوى: أنه يجوز الشركة فيها إذا استمر في البلد رواجها .



(فصل)

وقال أصحابنا: لا تصح مفاوضة، وعنان، بغير النقدين، والتبر، والفلوس النافقة، أي: الرائجة، فإنها إذا كانت تروج أخذت حكم النقدين، وقيل: هذا عند محمد; لأنها ملحقة بالنقود عنده، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا تصح الشركة فيها، ولا المضاربة; لأن رواجها عارض باصطلاح الناس، فكان على شرف الزوال، فيصير عرضا، فلا يصلح رأس المال في الشركة، والمضاربة; لأنه لا يمكن دفع رأس المال بالعدد بعد الكساد، وبالقيمة; لأنه لا يعرف إلا بالحزر، فيؤدي إلى النزاع، وقيل: أبو يوسف مع محمد، والأقيس: أن يكون مع أبي حنيفة; لما عرف من أصلهما، [ ص: 477 ] أن الفلوس تتعين بالقصد عندهما، وإن كانت تروج بين الناس، حتى جاز بيع فلس بفلسين عندهما، خلافا له، والأصح: أنها تجوز في الفلوس عندهما، خلافا له; لأنهما أثمان باصطلاح الكل، فلا تبطل ما لم يصطلح على ضده، وأما التبر فجعله في شركة كتاب الأصل، وجامع الصغير، بمنزله العروض، فلم يصح رأس مال الشركة، والمضاربة، وجعله في صرف الأصل كالأثمان; لأن الذهب والفضة ثمن بأصل الخلقة، والأول هو ظاهر المذهب، ووجهه: أن الثمنية تختص بضرب مخصوص; لأنه بعد الضرب لا يصرف إلى شيء آخر غالبا، والمعتبر هو العرف، فكل موضع جرى التعامل به فهو ثمن، وإلا فحكمه كحكم العروض في حكم التعيين، وعدم جواز الشركة والمضاربة به، والله أعلم .




الخدمات العلمية