الباب الثالث :
في بيان العدل ، واجتناب الظلم في ، المعاملة .
اعلم أن المعاملة قد تجري على وجه يحكم المفتي بصحتها ، وانعقادها ولكنها تشتمل على ظلم يتعرض به المعامل لسخط الله تعالى إذ ليس كل نهي يقتضي فساد العقد وهذا الظلم يعني به : ما استضر به الغير وهو منقسم إلى : ما يعم ضرره وإلى : ما يخص المعامل .
القسم الأول :
فيما يعم ضرره ، وهو أنواع .
النوع الأول :
nindex.php?page=treesubj&link=23700_27472الاحتكار فبائع الطعام يدخر الطعام ينتظر به غلاء الأسعار وهو ظلم عام وصاحبه مذموم في الشرع .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من احتكر الطعام أربعين يوما ثم تصدق به لم تكن صدقته كفارة لاحتكاره .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=35734من احتكر الطعام أربعين يوما ، فقد برئ من الله وبرئ الله منه .
وقيل فكأنما قتل الناس جميعا، وعن علي رضي الله عنه من احتكر الطعام أربعين يوما قسا قلبه .
وعنه أيضا ، أنه أحرق طعام محتكر بالنار .
وروي في فضل
nindex.php?page=treesubj&link=23700ترك الاحتكار عنه صلى الله عليه وسلم من جلب طعاما فباعه بسعر يومه فكأنما تصدق به وفي لفظ آخر :
فكأنما أعتق رقبة .
وقيل : في قوله تعالى :
nindex.php?page=treesubj&link=28993_33014nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=25ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم : إن الاحتكار من الظلم ، وداخل تحته في الوعيد .
وعن بعض السلف أنه كان
بواسط فجهز سفينة حنطة إلى
البصرة وكتب إلى وكيله بع هذا الطعام يوم يدخل
البصرة ولا تؤخره إلى غد فوافق سعة في السعر فقال له التجار لو أخرته جمعة ربحت فيه أضعافه ، فأخره جمعة فربح فيه أمثاله وكتب إلى صاحبه بذلك فكتب إليه صاحب الطعام : يا هذا إنا كنا قنعنا بربح يسير مع سلامة ديننا ، وإنك قد خالفت وما نحب أن نربح أضعافه بذهاب شيء من الدين فقد ، جنيت علينا جناية فإذا أتاك كتابي هذا ، فخذ المال كله فتصدق به على فقراء
البصرة ، وليتني أنجو من إثم الاحتكار ، كفافا ، لا علي ولا لي .
واعلم أن النهي مطلق ويتعلق النظر به في الوقت ، والجنس أما الجنس فيطرد النهي في أجناس الأقوات أما ما ليس بقوت ولا هو معين على القوت كالأدوية والعقاقير والزعفران ، وأمثاله ، فلا يتعدى النهي إليه ، وإن كان مطعوما .
وأما ما يعين على القوت ، كاللحم والفواكه وما يسد مسدا يغني عن القوت في بعض الأحوال وإن كان لا يمكن المداومة عليه فهذا في محل النظر ، فمن العلماء من طرد التحريم في السمن ، والعسل ، والشيرج والجبن والزيت ، وما يجري مجراه وأما الوقت فيحتمل أيضا طرد النهي في جميع الأوقات وعليه تدل الحكاية التي ذكرنا في الطعام الذي صادف بالبصرة سعة في السعر ويحتمل أن يخصص بوقت قلة الأطعمة ، وحاجة الناس إليه ، حتى يكون في تأخير بيعه ضر ما ، فأما إذا اتسعت الأطعمة ، وكثرت ، واستغنى الناس عنها ، ولم يرغبوا فيها ، إلا بقيمة قليلة ، فانتظر صاحب الطعام ذلك ولم ينتظر قحطا فليس في هذا إضرار .
وإذا كان الزمان زمان قحط كان في ادخار العسل ، والسمن ، والشيرج وأمثالها ، إضرار فينبغي أن يقضى بتحريمه ويعول في نفي التحريم ، وإثباته ، على الضرار ، فإنه مفهوم قطعا من تخصيص الطعام وإذا لم يكن ضرار فلا يخلو احتكار الأقوات عن كراهية فإنه ; ينتظر مبادئ الضرار ، وهو ارتفاع الأسعار وانتظار مبادئ الضرار محذور كانتظار عين الضرار ، ولكنه دونه وانتظار عين الضرار أيضا هو دون الإضرار فبقدر درجات الإضرار تتفاوت درجات الكراهية ، والتحريم .
الْبَابُ الثَّالِثُ :
فِي بَيَانِ الْعَدْلِ ، وَاجْتِنَابِ الظُّلْمِ فِي ، الْمُعَامَلَةِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ قَدْ تَجْرِي عَلَى وَجْهٍ يَحْكُمُ الْمُفْتِي بِصِحَّتِهَا ، وَانْعِقَادِهَا وَلَكِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى ظُلْمٍ يَتَعَرَّضُ بِهِ الْمَعَامِلُ لِسُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ لَيْسَ كُلُّ نَهْيٍ يَقْتَضِي فَسَادَ الْعَقْدِ وَهَذَا الظُّلْمُ يَعْنِي بِهِ : مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْغَيْرُ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى : مَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ وَإِلَى : مَا يَخُصُّ الْمَعَامِلَ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ :
فِيمَا يَعُمُّ ضَرَرُهُ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ .
النَّوْعُ الْأَوَّلُ :
nindex.php?page=treesubj&link=23700_27472الِاحْتِكَارُ فَبَائِعُ الطَّعَامِ يَدِّخَرُ الطَّعَامَ يَنْتَظِرُ بِهِ غَلَاءَ الْأَسْعَارِ وَهُوَ ظُلْمٌ عَامٌّ وَصَاحِبُهُ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ تَكُنْ صَدَقَتُهُ كَفَّارَةٌ لِاحْتِكَارِهِ .
وَرَوَى
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنُ عُمَرَ ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=35734مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ .
وَقِيلَ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنِ احْتَكَرَ الطَّعَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَسَا قَلْبُهُ .
وَعَنْهُ أَيْضًا ، أَنَّهُ أَحْرَقَ طَعَامَ مُحْتَكِرٍ بِالنَّارِ .
وَرُوِيَ فِي فَضْلِ
nindex.php?page=treesubj&link=23700تَرْكِ الِاحْتِكَارِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَلَبَ طَعَامًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بِهِ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ :
فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَ رَقَبَةً .
وَقِيلَ : فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=treesubj&link=28993_33014nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=25وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ : إِنَّ الِاحْتِكَارَ مِنَ الظُّلْمِ ، وَدَاخِلٌ تَحْتَهُ فِي الْوَعِيدِ .
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ كَانَ
بِوَاسِطَ فَجَهَّزَ سَفِينَةَ حِنْطَةٍ إِلَى
الْبَصْرَةِ وَكَتَبَ إِلَى وَكِيلِهِ بِعْ هَذَا الطَّعَامَ يَوْمَ يَدْخُلُ
الْبَصْرَةَ وَلَا تُؤَخِّرْهُ إِلَى غَدٍ فَوَافَقَ سِعَةً فِي السِّعْرِ فَقَالَ لَهُ التُّجَّارُ لَوْ أَخَّرْتَهُ جُمْعَةً رَبِحْتَ فِيهِ أَضْعَافُهُ ، فَأَخَّرَهُ جُمْعَةً فَرَبِحَ فِيهِ أَمْثَالَهُ وَكُتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ الطَّعَامِ : يَا هَذَا إِنَّا كُنَّا قَنِعْنَا بِرِبْحٍ يَسِيرٍ مَعَ سَلَامَةِ دِينِنَا ، وَإِنَّكَ قَدْ خَالَفْتَ وَمَا نُحِبُّ أَنْ نَرْبَحَ أَضْعَافَهُ بِذَهَابِ شَيْءٍ مِنَ الدِّينِ فَقَدْ ، جَنَيْتَ عَلَيْنَا جِنَايَةً فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا ، فَخُذِ الْمَالَ كُلَّهُ فَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى فُقَرَاءِ
الْبَصْرَةِ ، وَلَيْتَنِي أَنْجُو مِنْ إِثْمِ الِاحْتِكَارِ ، كَفَافًا ، لَا عَلَيَّ وَلَا لِيَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ وَيَتَعَلَّقُ النَّظَرُ بِهِ فِي الْوَقْتِ ، وَالْجِنْسِ أَمَّا الْجِنْسُ فَيَطْرُدُ النَّهْيَ فِي أَجْنَاسِ الْأَقْوَاتِ أَمَّا مَا لَيْسَ بِقُوتٍ وَلَا هُوَ مُعِينٌ عَلَى الْقُوتِ كَالْأَدْوِيَةِ وَالْعَقَاقِيرِ وَالزَّعْفَرَانِ ، وَأَمْثَالِهِ ، فَلَا يَتَعَدَّى النَّهْيُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مَطْعُومًا .
وَأَمَّا مَا يُعِينُ عَلَى الْقُوتِ ، كَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ وَمَا يَسُدُّ مَسَدًّا يُغْنِي عَنِ الْقُوتِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ فَهَذَا فِي مَحَلِّ النَّظَرِ ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ طَرَدَ التَّحْرِيمَ فِي السَّمْنِ ، وَالْعَسَلِ ، وَالشَّيْرَجِ وَالْجُبْنِ وَالزَّيْتِ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَأَمَّا الْوَقْتُ فَيُحْتَمَلُ أَيْضًا طَرْدُ النَّهْيِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْحِكَايَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي الطَّعَامِ الَّذِي صَادَفَ بِالْبَصْرَةِ سَعَةً فِي السِّعْرِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّصَ بِوَقْتِ قِلَّةِ الْأَطْعِمَةِ ، وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ ، حَتَّى يَكُونَ فِي تَأْخِيرِ بَيْعِهِ ضُرٌّ مَا ، فَأَمَّا إِذَا اتَّسَعَتِ الْأَطْعِمَةُ ، وَكَثُرَتْ ، وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْهَا ، وَلَمْ يَرْغَبُوا فِيهَا ، إِلَّا بِقِيمَةٍ قَلِيلَةٍ ، فَانْتَظَرَ صَاحِبُ الطَّعَامِ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ قَحْطًا فَلَيْسَ فِي هَذَا إِضْرَارٌ .
وَإِذَا كَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ قَحْطٍ كَانَ فِي ادِّخَارِ الْعَسَلِ ، وَالسَّمْنِ ، وَالشَّيْرَجِ وَأَمْثَالِهَا ، إِضْرَارٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِتَحْرِيمِهِ وَيُعَوَّلُ فِي نَفْيِ التَّحْرِيمِ ، وَإِثْبَاتِهِ ، عَلَى الضِّرَارِ ، فَإِنَّهُ مَفْهُومٌ قَطْعًا مِنْ تَخْصِيصِ الطَّعَامِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضِرَارٌ فَلَا يَخْلُو احْتِكَارُ الْأَقْوَاتِ عَنْ كَرَاهِيَةٍ فَإِنَّهُ ; يَنْتَظِرُ مَبَادِئَ الضِّرَارِ ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْأَسْعَارِ وَانْتِظَارُ مَبَادِئِ الضِّرَارِ مَحْذُورٌ كَانْتِظَارِ عَيْنِ الضِّرَارِ ، وَلَكِنَّهُ دُونَهُ وَانْتِظَارُ عَيْنِ الضِّرَارِ أَيْضًا هُوَ دُونَ الْإِضْرَارِ فَبِقَدْرِ دَرَجَاتِ الْإِضْرَارِ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْكَرَاهِيَةِ ، وَالتَّحْرِيمِ .