فصل : فإذا ثبت هذا
nindex.php?page=treesubj&link=4205فالنذور المحضة ضربان : مجازاة ، وتبرر .
فأما المجازاة : فهو ما عقده الناذر على نفسه من طاعة يفعلها مجازاة على ما يرجو من نفع ، أو يستدفعه من ضر فجعله شرطا وجزاء .
فالشرط ما طلب والجزاء ما بذل ، والشرط المطلوب على ثلاثة أضرب : طاعة ومباح ومعصية .
[ ص: 465 ] nindex.php?page=treesubj&link=4179والجزاء المبذول على ثلاثة أضرب : طاعة ومباح ومعصية .
فأما ضروب الشرط المطلوب فالطاعة منه أن يقول في الرجاء إن رزقني الله الحج ، أو فتح على يدي بلاد أعدائه ، فله علي كذا .
ويقول في الخوف : إن كفاني الله ظفر أعدائه بي ، أو دفع عني ما يقطعني عن صلاتي وصيامي فله علي كذا .
فهذا نذر منعقد والوفاء به واجب .
والمباح أن يقول في الرجاء : إن رزقني الله ولدا أو مالا فله علي كذا .
ويقول في الخوف : إن شفى الله مريضي أو سلمني في سفري فله علي كذا .
فهذا نذر منعقد والوفاء به واجب .
والمعصية أن يقول في الرجاء : إن ظفرت بقتل فلان ، أو زنيت بفلانة فلله علي كذا .
ويقول في الخوف : إن لم أدفع عن قطع الطريق ، ولم أمنع من شرب الخمر ، فلله علي كذا .
فهذا نذر باطل ، والوفاء به غير واجب ، لما رواه
الشافعي عن
سفيان ، عن
أيوب ، عن
أبي قلابة ، عن
أبي المهلب ، عن
عمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922395لا نذر في معصية الله ، ولا نذر فيما لا يملك ابن آدم ولأن الشرع لما منع من انعقاد المعصية ، أسقط ما قابلها من الجزاء ، وإن لم يكن معصية .
وأما ضرب الجزاء المبذول ، فالطاعة منها أن يقول : إن كان كذا فلله علي أن أصلي ، أو أصوم ، أو أحج ، أو أعتكف ، أو أتصدق ، فهذا جزاء ينعقد به الشرط المباح ، ويلتزم فيه الوفاء .
وأما المباح فهو أن يقول : إن كان كذا ، فلله علي أكل لذيذ ، ولبس جديد إن أثبت ، أو لا أكلت لذيذا ، ولا لبست جديدا ، إن نفى ، فهذا جزاء لا ينعقد به الشرط ، ولا يلزم فيه الوفاء ؛ لأنه خارج عن العرف المقصود بطاعة الله تعالى .
روى
عكرمة عن
ابن عباس قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925435بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم في [ ص: 466 ] الشمس فسأل عنه فقالوا : هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم فقال : مروه فليتكلم ، وليستظل وليقعد وليتم صومه فأسقط عنه ما لا طاعة فيه ، وأمره بالتزام ما فيه طاعة .
وروى
ابن عون حديثا أسنده أن رجلا حج مع ذي قرابة مقترنا به فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925436ما هذا ؟ قيل : إنه نذر فأمر بالقران أن يقطع ؛ لأنه لما لم يكن في الاقتران طاعة لله أسقطه من نذره ، والمعصية أن يقول : إن كان كذا قبلت فلانا ، أو زنيت بفلانة ، إن أثبت ، أو لا صليت ، ولا صمت إن نفى ، فهذا جزاء باطل ، وهو عندنا باعتقاده عاص ، فصار شرط النذر منعقدا بنوعين بطاعة ، ومباح ، وغير منعقد بنوع واحد وهو المعصية ، وصار الجزاء لازما بنوع واحد وهو الطاعة وغير لازم بنوعين ، وهما المباح والمعصية .
فعلى هذا إذا قال : إن هلك فلان ؛ وهبت داري لفلان فإن كان الهالك من أعداء الله ، انعقد به الشرط ؛ لأنه طاعة ، وإن لم يكن من أعدائه ، لم ينعقد به الشرط ؛ لأنه معصية وإن كان الموهوب له ممن يقصد بهبته الأجر والثواب لزم به الجزاء ؛ لأنه طاعة ، وإن كان ممن يقصد بهبته التواصل والمحبة لم يلزم به الجزاء ؛ لأنه مباح ولو قال : إن سلم الله مالي وهلك مال فلان أعتقت عبدي وطلقت امرأتي انعقد نذره على سلامة ماله ، ولم ينعقد على هلاك مال فلان ؛ لأن ما شرطه من سلامة ماله مباح ، وما شرطه من هلاك مال غيره معصية ، ولزمه في الجزاء عتق عبده ، ولم يلزمه طلاق امرأته ؛ لأن الجزاء بالعتق طاعة ، والجزاء بالطلاق مباح .
ولو جعل ذلك شرطا في وقوع العتق والطلاق فقال : إن سلم الله مالي وهلك مال فلان ، فامرأتي طالق وعبدي حر ، انعقد الشرطان ، ووقع بهما العتق والطلاق ، وصار شرط المعصية معتبرا كشرط الطاعة والجزاء فيه بمباح الطلاق واقع كوقوعه بمستحب العتق ؛ لأنه صار خارجا عن أحكام النذور إلى وقوع العتق والطلاق بالصفات ، ثم نجعل ما ذكرناه قياسا مستمرا في نذر المجازاة .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=4205نذر التبرر فهو أن يقول مبتدأ لله علي كذا فيبتدئ بالتزام ما ليس بلازم ، فهو نوعان : طاعة ، وغير طاعة .
فأما الطاعة التي يقصد بها التقرب إلى الله عز وجل ، فهو أن يقول : لله علي أن أحج ، أو أعتمر ، أو أصلي ، أو أصوم ، أو أعتكف ، أو أتصدق بمالي ، أو ما جرى مجرى هذا من أنواع القرب ، فقد اختلف أصحابنا في انعقاد نذره ، ووجوب الوفاء به على وجهين :
[ ص: 467 ] أحدهما : وهو قول
أبي العباس بن سريج ، وأبي سعيد الإصطخري وأبي علي بن أبي هريرة ، أنه نذر منعقد يجب الوفاء به ، كالمجازاة ؛ لعموم ما قدمناه من ظواهر الكتاب والسنة ولقول الله تعالى حاكيا عن
مريم :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=35إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني [ آل عمران : 35 ] ، فأطلق نذرها ولم يذكر تعليقه بشرط وجزاء ، فدل على لزوم النذرين في التبرر والمجازاة .
ولقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=77بما أخلفوا الله ما وعدوه ، [ التوبة : 77 ] ، فدل على وجوب الوفاء بوعده في الأمرين .
ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925437من نذر أن يطيع الله فليطعه فاستوى فيه حكم النذرين .
ولأنه عقد نذر بطاعة فوجب أن يلزم في المجازاة ، والتبرر ، كالأضحية .
والوجه الثاني : وهو قول
أبي إسحاق المروزي ، وأبي بكر الصيرفي أنه نذر غير منعقد ، والوفاء به واجب تمسكا بدليل لغة وشرع .
أما اللغة فما حكاه
الصيرفي عن
ثعلب ، أن النذر عند العرب وعد بشرط ، فكان عرف اللسان فيه مستعملا .
وأما الشرع فلاستقرار أصوله على الفرق في اللزوم بين عقود المعاوضات من البيوع والإجارات ؛ لأنها لازمة بالعقد وبين عقود غير المعاوضات من العطايا والهبات ؛ لأنها غير لازمة بالعقد ، فاقتضى أن يكون نذر المعاوضة لازما بالعقد ، ونذر غير المعاوضة غير لازم بالعقد ، وكلا الاستدلالين مدخول بما قدمناه ، وعرف اللسان مدفوع بقول
جميل بن معمر :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لقولي
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=4183نذر ما ليس بطاعة ، ولا قربة فكقوله : لله علي أن أدخل
البصرة أو لا أدخلها ، أو آكل لذيذا ، أو لا آكله ، أو ألبس جديدا ، أو لا ألبسه فليس في فعل شيء من هذا ولا في تركه طاعة لله تعالى ولا قربة إليه ، لأنه قد أباح فعله وتركه فاستوى الأمران في الحكم عنده ، فإن قيل : فقد رويت أن امرأة قالت :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925438يا رسول الله : إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال : أوف بنذرك قيل : هو محمول على الإباحة دون الوجوب فعلى هذا لو قال : لله علي أن أتزوج ، فإن قصد به غض الطرف وتحصين الفرج ، كان قربة ؛ فيكون واجبا في أصح الوجهين ، وإن قصد به الاستمتاع والتلذذ كان مباحا ، فلا يجب على الوجهين .
ثم على قياس هذا في نظائره ؛ فهذا حكم عقد الباب في أصول النذور .
فَصْلٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا
nindex.php?page=treesubj&link=4205فَالنُّذُورُ الْمَحْضَةُ ضَرْبَانِ : مُجَازَاةٌ ، وَتَبَرُّرٌ .
فَأَمَّا الْمُجَازَاةُ : فَهُوَ مَا عَقَدَهُ النَّاذِرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ طَاعَةٍ يَفْعَلُهَا مُجَازَاةً عَلَى مَا يَرْجُو مِنْ نَفْعٍ ، أَوْ يَسْتَدْفِعُهُ مِنْ ضُرٍّ فَجَعَلَهُ شَرْطًا وَجَزَاءً .
فَالشَّرْطُ مَا طُلِبَ وَالْجَزَاءُ مَا بُذِلَ ، وَالشَّرْطُ الْمَطْلُوبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ .
[ ص: 465 ] nindex.php?page=treesubj&link=4179وَالْجَزَاءُ الْمَبْذُولُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : طَاعَةٌ وَمُبَاحٌ وَمَعْصِيَةٌ .
فَأَمَّا ضُرُوبُ الشَّرْطِ الْمَطْلُوبِ فَالطَّاعَةُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ الْحَجَّ ، أَوْ فَتَحَ عَلَى يَدَيَّ بِلَادَ أَعْدَائِهِ ، فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا .
وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ كَفَانِي اللَّهُ ظَفَرَ أَعْدَائِهِ بِي ، أَوْ دَفَعَ عَنِّي مَا يَقْطَعُنِي عَنْ صَلَاتِي وَصِيَامِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا .
فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ .
وَالْمُبَاحُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ : إِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدًا أَوْ مَالًا فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا .
وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ سَلَّمَنِي فِي سَفَرِي فَلَهُ عَلَيَّ كَذَا .
فَهَذَا نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ .
وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّجَاءِ : إِنْ ظَفِرْتُ بِقَتْلِ فُلَانٍ ، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا .
وَيَقُولُ فِي الْخَوْفِ : إِنْ لَمْ أَدْفَعْ عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَلَمْ أَمْنَعْ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا .
فَهَذَا نَذْرٌ بَاطِلٌ ، وَالْوَفَاءُ بِهِ غَيْرُ وَاجِبٍ ، لِمَا رَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ عَنْ
سُفْيَانَ ، عَنْ
أَيُّوبَ ، عَنْ
أَبِي قِلَابَةَ ، عِنْ
أَبِي الْمُهَلَّبِ ، عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=922395لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا مَنَعَ مِنِ انْعِقَادِ الْمَعْصِيَةِ ، أَسْقَطَ مَا قَابَلَهَا مِنَ الْجَزَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً .
وَأَمَّا ضَرْبُ الْجَزَاءِ الْمَبْذُولِ ، فَالطَّاعَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ ، أَوْ أَصُومَ ، أَوْ أَحُجَّ ، أَوْ أَعْتَكِفَ ، أَوْ أَتَصَدَّقَ ، فَهَذَا جَزَاءٌ يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ الْمُبَاحُ ، وَيُلْتَزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ .
وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا ، فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَكْلُ لَذِيذٍ ، وَلُبْسُ جَدِيدٍ إِنْ أَثْبَتَ ، أَوْ لَا أَكَلْتُ لَذِيذًا ، وَلَا لَبِسْتُ جَدِيدًا ، إِنْ نَفَى ، فَهَذَا جَزَاءٌ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الشَّرْطُ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ الْوَفَاءُ ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
رَوَى
عِكْرِمَةُ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925435بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فِي [ ص: 466 ] الشَّمْسِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا : هَذَا أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ وَلَا يَقْعُدَ ، وَلَا يَسْتَظِلَّ ، وَلَا يَتَكَلَّمَ فَقَالَ : مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ، وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَأَسْقَطَ عَنْهُ مَا لَا طَاعَةَ فِيهِ ، وَأَمَرَهُ بِالْتِزَامِ مَا فِيهِ طَاعَةٌ .
وَرَوَى
ابْنُ عَوْنٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ أَنَّ رَجُلًا حَجَّ مَعَ ذِي قَرَابَةٍ مُقْتَرِنًا بِهِ فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925436مَا هَذَا ؟ قِيلَ : إِنَّهُ نَذَرَ فَأَمَرَ بِالْقِرَانِ أَنْ يُقْطَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الِاقْتِرَانِ طَاعَةٌ لِلَّهِ أَسْقَطَهُ مِنْ نَذْرِهِ ، وَالْمَعْصِيَةُ أَنْ يَقُولَ : إِنْ كَانَ كَذَا قَبَّلْتُ فُلَانًا ، أَوْ زَنَيْتُ بِفُلَانَةٍ ، إِنْ أَثْبَتَ ، أَوْ لَا صَلَّيْتُ ، وَلَا صُمْتُ إِنْ نَفَى ، فَهَذَا جَزَاءٌ بَاطِلٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا بِاعْتِقَادِهِ عَاصٍ ، فَصَارَ شَرْطُ النَّذْرِ مُنْعَقِدًا بِنَوْعَيْنِ بِطَاعَةٍ ، وَمُبَاحٍ ، وَغَيْرَ مُنْعَقِدٍ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ ، وَصَارَ الْجَزَاءُ لَازِمًا بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّاعَةُ وَغَيْرُ لَازِمٍ بِنَوْعَيْنِ ، وَهُمَا الْمُبَاحُ وَالْمَعْصِيَةُ .
فَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ : إِنْ هَلَكَ فُلَانٌ ؛ وَهَبْتُ دَارِي لِفُلَانٍ فَإِنْ كَانَ الْهَالِكُ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ ، انْعَقَدَ بِهِ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْدَائِهِ ، لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ لَزِمَ بِهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِبَتِهِ التَّوَاصُلَ وَالْمَحَبَّةَ لَمْ يَلْزَمْ بِهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ قَالَ : إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ أَعْتَقْتُ عَبْدِي وَطَلَّقْتُ امْرَأَتِي انْعَقَدَ نَذْرُهُ عَلَى سَلَامَةِ مَالِهِ ، وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى هَلَاكِ مَالِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَهُ مِنْ سَلَامَةِ مَالِهِ مُبَاحٌ ، وَمَا شَرَطَهُ مِنْ هَلَاكِ مَالِ غَيْرِهِ مَعْصِيَةٌ ، وَلَزِمَهُ فِي الْجَزَاءِ عِتْقُ عَبْدِهِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالْعِتْقِ طَاعَةٌ ، وَالْجَزَاءَ بِالطَّلَاقِ مُبَاحٌ .
وَلَوْ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَقَالَ : إِنْ سَلَّمَ اللَّهُ مَالِي وَهَلَكَ مَالُ فُلَانٍ ، فَامْرَأَتِي طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ ، انْعَقَدَ الشَّرْطَانِ ، وَوَقَعَ بِهِمَا الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ ، وَصَارَ شَرْطُ الْمَعْصِيَةِ مُعْتَبَرًا كَشَرْطِ الطَّاعَةِ وَالْجَزَاءُ فِيهِ بِمُبَاحِ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ كَوُقُوعِهِ بِمُسْتَحَبِّ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا عَنْ أَحْكَامِ النُّذُورِ إِلَى وُقُوعِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ بِالصِّفَاتِ ، ثُمَّ نَجْعَلُ مَا ذَكَرْنَاهُ قِيَاسًا مُسْتَمِرًّا فِي نَذْرِ الْمُجَازَاةِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=4205نَذْرُ التَّبَرُّرِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ مُبْتَدِأً لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا فَيَبْتَدِئُ بِالْتِزَامِ مَا لَيْسَ بِلَازِمٍ ، فَهُوَ نَوْعَانِ : طَاعَةٌ ، وَغَيْرُ طَاعَةٍ .
فَأَمَّا الطَّاعَةُ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ أَنْ يَقُولَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ ، أَوْ أَعْتَمِرَ ، أَوْ أُصَلِّيَ ، أَوْ أَصُومَ ، أَوْ أَعْتَكِفَ ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي ، أَوْ مَا جَرَى مَجْرَى هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي انْعِقَادِ نَذْرِهِ ، وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
[ ص: 467 ] أَحَدُهُمَا : وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّهُ نَذْرٌ مُنْعَقِدٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، كَالْمُجَازَاةِ ؛ لِعُمُومِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ
مَرْيَمَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=35إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي [ آلِ عِمْرَانَ : 35 ] ، فَأَطْلَقَ نَذْرَهَا وَلَمْ يَذْكُرْ تَعْلِيقَهُ بِشَرْطٍ وَجَزَاءٍ ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ النَّذْرَيْنِ فِي التَّبَرُّرِ وَالْمُجَازَاةِ .
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=77بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ ، [ التَّوْبَةِ : 77 ] ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِوَعْدِهِ فِي الْأَمْرَيْنِ .
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925437مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ فَاسْتَوَى فِيهِ حُكْمُ النَّذْرَيْنِ .
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ نَذْرٍ بِطَاعَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِي الْمُجَازَاةِ ، وَالتَّبَرُّرِ ، كَالْأُضْحِيَّةِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ أَنَّهُ نَذْرٌ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ ، وَالْوَفَاءُ بِهِ وَاجِبٌ تَمَسُّكًا بِدَلِيلِ لُغَةٍ وَشَرْعٍ .
أَمَّا اللُّغَةُ فَمَا حَكَاهُ
الصَّيْرَفِيُّ عَنْ
ثَعْلَبٍ ، أَنَّ النَّذْرَ عِنْدَ الْعَرَبِ وَعْدٌ بِشَرْطٍ ، فَكَانَ عُرْفُ اللِّسَانِ فِيهِ مُسْتَعْمَلًا .
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِاسْتِقْرَارِ أُصُولِهِ عَلَى الْفَرْقِ فِي اللُّزُومِ بَيْنَ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ بِالْعَقْدِ وَبَيْنَ عُقُودِ غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ مِنَ الْعَطَايَا وَالْهِبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بِالْعَقْدِ ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ نَذْرُ الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا بِالْعَقْدِ ، وَنَذْرُ غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ غَيْرَ لَازِمٍ بِالْعَقْدِ ، وَكِلَا الِاسْتِدْلَالَيْنِ مَدْخُولٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَعُرْفُ اللِّسَانِ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِ
جَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ :
فَلَيْتَ رِجَالًا فِيكِ قَدْ نَذَرُوا دَمِي وَهَمُّوا بِقَتْلِي يَا بُثَيْنَ لِقَوْلِي
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=4183نَذْرُ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ ، وَلَا قُرْبَةٍ فَكَقَوْلِهِ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَدْخُلَ
الْبَصْرَةَ أَوْ لَا أَدْخُلَهَا ، أَوْ آكُلَ لَذِيذًا ، أَوْ لَا آكُلَهُ ، أَوْ أَلْبَسَ جَدِيدًا ، أَوْ لَا أَلْبَسَهُ فَلَيْسَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا فِي تَرْكِهِ طَاعَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا قُرْبَةٌ إِلَيْهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبَاحَ فِعْلَهُ وَتَرَكَهُ فَاسْتَوَى الْأَمْرَانِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَيْتَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=925438يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكَ بِالدُّفِّ فَقَالَ : أَوْفِ بِنَذْرِكِ قِيلَ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَزَوَّجَ ، فَإِنْ قَصَدَ بِهِ غَضَّ الطَّرْفِ وَتَحْصِينَ الْفَرْجِ ، كَانَ قُرْبَةً ؛ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الِاسْتِمْتَاعَ وَالتَّلَذُّذَ كَانَ مُبَاحًا ، فَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ .
ثُمَّ عَلَى قِيَاسِ هَذَا فِي نَظَائِرِهِ ؛ فَهَذَا حُكْمُ عَقْدِ الْبَابِ فِي أُصُولِ النُّذُورِ .