[ ص: 140 ] مختصر المكاتب  
قال  الماوردي      : أما  الكتابة   فهو أن يعقد السيد مع عبده عقد معاوضة على عتقه بمال يتراضيان به إلى نجوم يتفقان عليها ، ليعتق بأدائها فيملك العبد كسب نفسه ويملك السيد به مال نجومه ، وفي تسمية هذا العقد كتابة وجهان :  
أحدهما : العرف الجاري بكتابته في كتاب وثيقة ، توقع فيها الشهادة .  
والثاني : لأن  الكتابة في اللغة   الضم والجمع ، فسمي بها هذا العقد لضم النجوم بعضها إلى بعض .  
والأصل في جواز الكتابة   قول الله تعالى :  والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم    " ( النور : 33 ) .  وفي قوله : (  علمتم فيهم خيرا      ) ثلاثة تأويلات      :  
أحدها : أن المراد بالخير القدرة على الكسب ، والاحتراف ، وهذا قول  ابن عمر ،   وابن عباس      .  
والثاني : أنه الرشد والصلاح في الدين . وهذا قول  الحسن   وطاوس   وقتادة      .  
والثالث : أنه الكسب والأمانة ، ليكون بالكسب قادرا على الأداء وبالأمانة موثوقا بوفائه ، وهذا قول  الشافعي   ومالك      .  
وفي  قوله : "  وآتوهم من مال الله الذي آتاكم       " ( النور : 33 ) ، وجهان :  
أحدهما : يعني من مال الزكاة في سهم الرقاب يعطاه المكاتب ليستعين به في أداء ما عليه للسيد ، ويجوز للسيد أخذه وإن كان غنيا ، ويكون هذا خطابا لأرباب الأموال ، وهذا قول  الحسن البصري ،   وإبراهيم النخعي ،   وعبد الرحمن بن زيد      .  
والثاني : من مال الكتابة يضعه السيد عنه ، أو يرده عليه معونة له كما أعانه غيره من سهم الرقاب ، ويكون هذا خطابا للسيد . وهذا قول الجمهور .  
وحكى  الكلبي   أن سبب نزول هذه الآية أن عبدا  لحويطب بن عبد العزى   سأله أن يكاتبه ، فامتنع فأنزل الله تعالى ذلك فيه .  
 [ ص: 141 ] ويدل على جوازها من السنة حديث  عمرو بن شعيب   عن أبيه عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم .  
وروى  سهل بن حنيف   أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  من أعان غارما ، أو غازيا ، أو مكاتبا في كتابته أظله الله في ظله ولا ظل إلا ظله .  
وروى  الشافعي   عن  سفيان   عن  الزهري   عن  نبهان مولى    أم سلمة    رضي الله عنها أنها كاتبته وقالت له : كم بقي عليك قال : قلت : ألف درهم قالت : فعندك ما تؤدي . قلت : نعم . قالت : ادفعها إلى فلان ، ابن أختها ، ثم ألقت الحجاب ، وقالت : السلام عليك - هذا آخر ما تراني - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه     .  
ويدل عليه من فعل الصحابة ما روي  أن   بريرة  كوتبت على تسع أواق تؤدي في كل عام أوقية     .  
وكاتب  عبد الله بن عمر   عبدا له على خمسة وثلاثين ألف درهم     .  
وكاتب  أنس بن مالك   مولاه  سيرين أبا محمد   على مال ترك عليه منه خمسة آلاف درهم     . قيل في أول نجومه .  
وقيل : في آخرها . وانعقد الإجماع على جوازها ، وإنما اختلفوا في  وجوبها إذا طلبها العبد من سيده ،   فذهب  عطاء بن أبي رباح ،   وعمرو بن دينار ،   وداود بن علي   إلى وجوبها ، وأن يؤخذ بها السيد إذا طلبها العبد ، بقدر قيمته فما زاد استدلالا بقول الله تعالى :  فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا   ، ( النور : 33 ) ، وهذا أمر يقتضي الوجوب . ثم قال :  وآتوهم من مال الله الذي آتاكم      ( النور : 33 ) ، . والإيتاء واجب فكذلك الكتابة ؛ لأن صيغة الأمر فيهما واحدة .  
ولأن  سيرين   سأل  أنس بن مالك   أن يكاتبه فأبى عليه فعلاه  عمر   بالدرة وقال : أما سمعت الله تعالى يقول :  فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا   ، ( النور : 33 ) ، فكاتبه ،  ولأن العقود التي تفضي إلى صلاح النفوس قد يجوز أن يقع الإجبار فيها كالمضطر إلى طعام يجبر مالكه على بيعه لما فيه من صلاح النفس ، كذلك الكتابة المفضية إلى العتق يجوز أن يقع الإجبار عليها لما فيها من صلاح النفس . وذهب  الشافعي   وأبو حنيفة   ومالك    [ ص: 142 ] ومن تقدمهم من الفقهاء والتابعين إلى أنها ندب لا تجب استدلالا بأن عقد الكتابة يتردد بين أصلي حظر يجذبه كل واحد منهما إلى حكمه .  
أحدهما : أنه غرر ؛ لأنه عقد على موجود بمعدوم .  
والثاني : أنه معاوض على ملكه بملكه ، فصار الأمر بالكتابة واردا بعد حظرها ، فاقتضى أن يحمل على الإباحة دون الوجوب كقوله تعالى :  فإذا تطهرن فأتوهن   البقرة : ( 222 ) ،  وإذا حللتم فاصطادوا   ، ( المائدة : 2 ) وفي هذا دليل وانفصال .  
ولأن مطلق الأمر يقتضي عموم حكمه في الوجوب والندب ولا يتجزأ حكمه ، فيكون بعضه واجبا ، وبعضه ندبا ، فلما حمل على الندب فيما قل عن القيمة ، وجب أن يقرن محمولا عليه فيما زاد عليها . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه  ، فاقتضى هذا الظاهر ألا يجبر السيد على إزالة ملكه عن رقبة العبد إلا بطيب نفسه ، وكالتدبير الذي لا إجبار فيه ؛ لأنهما عتق صفة .  
فأما استدلالهم بوجوب الإيتاء فعنه جوابان :  
أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون المندوب إليه شروطا واجبة كالطهارة لصلاة النافلة ، كذلك الإيتاء في الكتابة واجب وإن كانت الكتابة غير واجبة .  
والثاني : أنه لما جاز أن يختلف الأمر بها عندهم في العموم والخصوص فحملوه في الكتابة على الخصوص ، وفي الإيتاء على العموم ، جاز أن يختلفا عندنا في الوجوب والندب ، فحمل الكتابة على الندب ، والإيتاء على الوجوب .  
وجواب ثالث : وهو أن الكتابة معاوضة وأصول الشرع تمنع من وجوب عقود المعاوضات كالبيع والإيتاء مواساة وأصول الشرع لا تمنع من وجوب المواساة كالزكاة .  
وأما استدلالهم بإجبار  أنس   على كتابة  سيرين   فلا إجماع فيه فيستدل به ، وقول  عمر   لا يحج  أنسا   فلم يكن فيه دليل . وأما استدلالهم بما فيه من صلاح النفوس كالمضطر فليس بصحيح لأنه لا يجوز أن يعتبر ما تعلق باختيار الطالب في مصالح نفسه بحال المضطر في حفظ متاعه ، ألا ترى أن المضطر يجب عليه حراسة نفسه ، ولا يجب على العبد أن يدعو إلى كتابته فلما افترقا في حكم الطالب ، وجب أن يفترقا في حكم المطلوب .  
				
						
						
