الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في الأمرين من التجزئة والقرعة من وجهين : نص واستدلال .

                                                                                                                                            فأما النص : فوارد من طريقين اثنين :

                                                                                                                                            أحدهما : عن عمران بن الحصين : رواه الشافعي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين : أن رجلا من الأنصار أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " فقال قولا شديدا ثم دعاهم ، فجزأهم ثلاثة أجزاء ، فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، وأرق أربعة " .

                                                                                                                                            والطريق الثانية : عن أبي سعيد الخدري رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري : أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأقرع بينهم ، فأعتق اثنين ، ورد أربعة إلى الرق " .

                                                                                                                                            [ ص: 37 ] فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام خالف فيها أبو حنيفة :

                                                                                                                                            أحدها : أنه جزأهم ثلاثة أجزاء ، لتتكامل الحرية والرق ، وأبو حنيفة لا يجزئهم .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أقرع بينهم لتمييز الحرية من الرق ، وأبو حنيفة لا يقرع بينهم .

                                                                                                                                            والثالث : أنه كمل الحرية في اثنين ، والرق في أربعة ، وأبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه ، ويرق ثلثيه ، وما خالف النص كان مدفوعا .

                                                                                                                                            فإن قالوا : معنى هذا الحديث مستعمل في غير ما قلتموه ، وهو أن قوله : ( جزأهم ثلاثة أجزاء ) أي جعل جزءا حرية ، وجزأين رقا .

                                                                                                                                            وقوله : " أقرع بينهم " أي استقصاء في اعتبار القيمة اشتقاقا من المقارعة ، لا من القرعة مأخوذ من قولهم : قرع فلان فلانا إذا استقصى عليه . وقوله : أعتق اثنين ، وأرق أربعة أي أعتق سهمين ، وأرق أربعة أسهم .

                                                                                                                                            قيل : هذا تأويل معدول به عن الظاهر بغير دليل ، ويبطل بالدليل . أما قولهم : إن معنى جزأهم أي جعل جزءا حرية ، وجزأين رقا ، فليس بصحيح ؛ لأن هذه تجزئة الأحكام دون الأعيان ، وحمل التجزئة على الأعيان أولى من حملها على الأحكام ؟ لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن تجزئة الأحكام معلومة بالعتق ، فاستغنت عن تجزئة الرسول صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            والثاني : أنها فعل ، والفعل متوجه إلى الأعيان دون الأحكام .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إن معنى أقرع أي استقصى في القيمة ، فليس بصحيح من وجهين : أحدهما : أنه لو أعتق من كل واحد ثلثه ، لم يحتج إلى اعتبار القيمة .

                                                                                                                                            والثاني : أن القرعة بينهم لا تكون قرعة في قيمتهم .

                                                                                                                                            وأما قولهم : " أعتق اثنين ( أي سهمين ) وأرق أربعة " أسهم فليس بصحيح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لو كان ما قالوه لكان العتق بينهما والرق سهمين .

                                                                                                                                            والثاني : أن التجزئة مغنية عن هذا فلم يجز أن يحمل على ما لا يفيد ، وهذا مغن عن التجزئة ، فلم يجز أن يفعل ما لا يفيد .

                                                                                                                                            وأما الاستدلال عليهم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : على جواز التجزئة لتكميل الحرية ، وتكميل الرق .

                                                                                                                                            [ ص: 38 ] والثاني : على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق .

                                                                                                                                            وأما الدليل على جواز التجزئة لتكميل الحرية والرق ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن التجزئة موافقة لأصول الوصايا ألا يمضي في الوصايا إلا ما يحصل للورثة إلا مثلاه ، فإذا جزئوا أثلاثا ، وعتق منهم اثنان ، رق أربعة للورثة ، فصار لهم مثلا ما خرج بالعتق ، وإذا أعتق ثلثهم على ما قالوا ، واستسعوا في باقيهم خرج بالعتق ما لم يحصل للورثة مثلاه ، وتردد مال السعاية بين أن يحصل ، فيتأخر به حقوق الورثة ، وبين ألا يحصل ، فتبطل به حقوق الورثة ، وما أدى إلى واحد منهما كانت الأصول مانعة منه .

                                                                                                                                            والاستدلال الثاني : أن في التجزئة إيصال الورثة إلى حقوقهم من غير التركة ، فيصير المعتق مستوعبا لتركته وحقه في ثلثها ، والوارث ممنوع منها ، وقد استحق ثلثيها .

                                                                                                                                            وما أدى إلى هذا كان الشرع مانعا منه .

                                                                                                                                            وأما الدليل على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ما روي أن عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، استشار خارجة بن زيد بن ثابت ، وأبان بن عثمان بن عفان في القرعة بين العبيد في الحرية والرق ، فأشارا عليه باستعمالها فيه ، فعمل بها ، ولم يظهر في عصره مخالف فيها ، فصار قول ثلاثة من التابعين انعقد بهم الإجماع .

                                                                                                                                            والاستدلال الثاني : أنه لما استعملت القرعة في قسمة الأملاك المشتركة ليتميز بها نقل أملاك عن أملاك ، كان استعمالها في ملك الواحد ليتميز بها حرية ملكه من رقه أولى من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه في ملك واحد ، وذلك في ملك جماعة .

                                                                                                                                            والثاني : أن في العتق حقا لله تعالى ، فكان بنفي التهمة أحق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية