(فصل) قال : قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية ، وما في ضمنها من الدلائل على المعاني ، وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها ، وذكرناه عن قائليها من أبو بكر السلف وفقهاء الأمصار وإنزال الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ، ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في [ ص: 34 ] قوله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فحثنا على التفكر فيه ، وحرضنا على الاستنباط والتدبر ، وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين . ودل بما أنزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها ، وأن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره ، وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره ؛ إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده ، فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال .
فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن ؛ إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر . وأنا ذاكر مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا ، والله تعالى نسأل التوفيق . فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة ما احتمله اللفظ من . إرادة القيام
والثاني : ما اقتضته حقيقة اللفظ من بعد القيام . والثالث : ما احتمله من القيام من النوم ؛ لأن الآية على هذه الحال نزلت . والرابع : اقتضاؤها إيجاب إيجاب الغسل المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم . الوضوء من النوم
والخامس : احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة ، واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يحدث . والسادس : احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الإحداث . والسابع : دلالتها على جواز واحتمالها لقول من أوجب الدلك . والثامن : إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وأن مسحها غير جائز على ما بينا ، وبطلان قول من أجاز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير دلك . والتاسع : دلالتها على جواز المسح في جميع الأعضاء . والعاشر : دلالتها على وجوب الوضوء بغير نية على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى : الاقتصار بالفرض وجوهكم إذ كان الوجه ما واجهك ، وأن غير واجبين في الوضوء . المضمضة والاستنشاق
والحادي عشر : دلالتها على أن غير واجب ؛ إذ لم يكن باطنها من الوجه . والثاني عشر : دلالتها على نفي إيجاب تخليل [ ص: 35 ] اللحية . والثالث عشر : دلالتها على التسمية في الوضوء . والرابع عشر : احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة فيه . والخامس عشر : دلالتها على جواز دخول المرافق في الغسل . مسح بعض الرأس
والسادس عشر : احتمالها لوجوب مسح الجميع . والسابع عشر : احتمالها لجواز مسح البعض ، أي بعض كان منه . والثامن عشر : دلالتها على أنه غير جائز أن يكون ؛ إذ غير جائز تكليفه ما لا يمكن الاقتصار عليه . والتاسع عشر : احتمالها لوجوب المفروض ثلاث شعرات . والعشرون : احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح . والحادي والعشرون : دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله : غسل الرجلين إلى الكعبين
والثاني والعشرون : دلالتها على عدم وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء . والثالث والعشرون : دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين . والرابع والعشرون : دلالتها على جواز إيجاب الجمع بين الغسل والمسح إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث ؛ لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله . والخامس والعشرون : دلالتها على قول من أجاز المسح على الخفين من حيث دلت على المسح على الخفين ؛ لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه ، وإن كان عليهما خفان . والسادس والعشرون : دلالتها على جواز المسح على الجرموقين وأنه يحتاج إلى دليل في أن المسح على الجوربين غير مراد . والسابع والعشرون : دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار . المسح على الجوربين
فإن قيل : فإن كان ذلك دليلا على بطلان ، فقوله : المسح على العمامة وأرجلكم يدل على بطلان المسح على الخفين .
قيل له : لما كان قوله : وأرجلكم محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالهما استعملناه ما في حالين ، وإن كان في أحدهما مجازا ، لئلا نسقط واحدا منهما ، ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله : وامسحوا برءوسكم على المجاز ، فاستعملناه على حقيقته . والثامن والعشرون : دلالتها على جواز وأن ما زاد فهو تطوع . والتاسع والعشرون : دلالتها على نفي الوضوء مرة مرة ، وعلى بطلان قول من أوجب فرض الاستنجاء ، وعلى جواز الصلاة مع تركه . والثلاثون : دلالتها على بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح ، وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه [ ص: 36 ] الوضوء . والحادي والثلاثون : دلالتها على أن غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ليس بفرض ، وبطلان قول من أجاز مسح الأذنين . والثاني والثلاثون : دلالتها على جواز المسح عليهما ما دون الرأس بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل . تفريق الوضوء
والثالث والثلاثون : دلالتها على بطلان قول موجبي . والرابع والثلاثون : اقتضاؤها لإيجاب الترتيب في الوضوء . والخامس والثلاثون : دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء ، إذا كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه ، وهو ما قد بين حكمه في غيرها . والسادس والثلاثون : دلالتها على الغسل من الجنابة ووجوب استيعاب البدن كله بالغسل بقوله : المضمضة والاستنشاق فيه وإن كنتم جنبا فاطهروا والسابع والثلاثون : دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن . والثامن والثلاثون إيجاب الوضوء ليس بفرض فيه والتاسع والثلاثون : جوازه التيمم للحدث عند عدم الماء . والأربعون جواز للمريض إذا خاف ضرر الماء ؛ إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر . التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد
والحادي والأربعون : دلالتها على جواز ؛ إذ كان قوله تعالى : التيمم للجنب أو لامستم النساء يحتمل الجماع . والثاني والأربعون : احتمالها إيجاب ؛ إذ كان قوله تعالى : الوضوء من مس المرأة أو لامستم يحتمل الأمرين . والثالث والأربعون : دلالتها على أن ؛ إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله ، وهو المريض والمجروح . والرابع والأربعون : دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم ، ؛ إذ هو غير واجد للماء ، والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده . والخامس والأربعون : دلالتها على أن من من خاف العطش جاز له التيمم فليس عليه استعماله ؛ لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ، ثم قال تعالى : معه ماء لا يكفيه لوضوئه فلم تجدوا ماء يعني ما يكفي لغسلها ؛ ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم ، فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد . والسادس والأربعون : احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا فذكر عدم كل جزء منه ، إذ كان نكرة في جواز التيمم ، فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم . والسابع والأربعون : دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه ، ؛ إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا ، فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها . والثامن والأربعون : دلالتها على أن لم يجز له التيمم ، ؛ إذ كان واجدا للماء ، لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء [ ص: 37 ] بقوله تعالى : من خاف ذهاب الوقت إن توضأ فاغسلوا من غير ذكر الوقت . والتاسع والأربعون : دلالتها على أن أنه لا يصلي ؛ لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الآية من ماء أو تراب . والخمسون : احتمالها لجواز المحبوس الذي لا يجد الماء ولا ترابا نظيفا . والحادي والخمسون جواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا ، ؛ إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى : التيمم قبل دخول الوقت فلم تجدوا ماء والثاني والخمسون : دلالتها على جواز ، بقوله تعالى : الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ثم قوله في سياقه : فتيمموا فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء ، فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم . والثالث والخمسون : دلالتها على أن على الوضوء ، لقوله تعالى : المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف . والرابع والخمسون . والخامس والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به
لاقتضاء قوله تعالى : مسح اليدين إلى المرفقين وأيديكم إلى المرافق إياها ، وأن إنما خرج بدليل . والسادس والخمسون : ما فوق المرفقين لقوله تعالى : جوازه بكل ما كان من الأرض فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد الأرض .
والسابع والخمسون بطلان لقوله تعالى التيمم بالتراب النجس طيبا والنجس ليس بطيب . والثامن والخمسون : وجوب من وجهين : النية في التيمم
أحدهما : أن التيمم القصد والثاني : قوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه على ما بينا من دلالته على أن ، وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية ويوجب الاستئناف . والتاسع والخمسون : احتمالها ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع ، لقوله : لإصابة بعض التراب وجهه ويديه منه وهو للتبعيض . والستون : دلالتها على بطلان قول من أجاز ؛ إذ ليسا من الصعيد . والواحد والستون : دلالة قوله تعالى : التيمم بالثلج والحشيش أو جاء أحد منكم من الغائط على إيجاب وأن الطهارة من الخارج من السبيلين ؛ إذ كان الغائط وهو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك . والثاني والستون : دلالة قوله تعالى : دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوها توجب الوضوء فاغسلوا وجوهكم على جواز إلا ما خصه الدليل ، فيستدل به على جواز الغسل بسائر المائعات ويستدل به أيضا الوضوء بنبيذ التمر على الحسن بن صالح ويستدل به أيضا على جواز [ ص: 38 ] جوازه بالخل وما جرى مجراه ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك . والثالث والستون : دلالة قوله تعالى : الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات فلم تجدوا ماء فتيمموا على جوازه بالنبيذ ؛ إذ كان في النبيذ ماء ، وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ، ويستدل به أيضا من يجيز كالمرق وخل التمر ونحوه ؛ إذ كان فيه ماء . الوضوء بالماء المضاف
والرابع والستون : دلالتها لمن يمنع على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان ، لقوله : المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد إذا قمتم إلى الصلاة فقد روي : " إذا قمتم وأنتم محدثون " وهي محدثة ، لوجود الحدث بعد الطهارة . والخامس والستون : دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة ؛ إذ كان التيمم غير رافع للحدث ، فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث . والسادس والستون : دلالتها على جواز لقوله تعالى : التيمم في أول الوقت عند عدم الماء أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله : إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا فأمر بالصلاة عند دلوكها ، وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما ؛ فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت ، كما اقتضى جواز والسابع والستون : دلالتها على امتناع جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله . وجواز الصلاة به ، لقوله تعالى : التيمم في الحضر للمحبوس وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله : فتيمموا صعيدا فشرط في إباحة التيمم شيئين :
أحدهما المرض ، والآخر : السفر مع عدم الماء ؛ فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس ، فغير جائز صلاته بالتيمم .
فإن قيل : فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما . قيل له : هو كذلك ، إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين :
أحدهما : السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء ، والثاني : عدمه ؛ وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب ، وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها ، والغالب منها عدمه .
والثامن والستون : دلالة قوله : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج على نفي كل ما أوجب الحرج ، والاحتجاج به عند وقوع الخلاف على منتحلي مذهب التضييق ؛ فيدل على جواز فيحبسه لشربه ؛ إذ كان فيه نفي الضيق والحرج ، وعلى نفي إيجاب التيمم ، وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش ، وعلى نفي إيجاب [ ص: 39 ] النية فيها ، وما جرى مجرى ذلك . والتاسع والستون : دلالة قوله : الترتيب والموالاة في الطهارة ولكن يريد ليطهركم على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره ، ومن موالاة أو تفريق ، ومن وجوب نية أو عدمها ، وما جرى مجرى ذلك . والسبعون : دلالة قوله : فاطهروا على سقوط اعتبار ؛ إذ كان المراد التطهير ، وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع غير موجب اعتباره . والواحد والسبعون : أن قوله تعالى : تقدير الماء وامسحوا برءوسكم فيه دلالة على أن المراد ؛ فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الأحكام ، منها نصوص ومنها احتمال في مسحه بالماء وشروطها التي تصح بها . وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى بحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها ؛ والله الموفق . الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة