الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا إنما أخبروا عن ظاهر الحال لا عن باطنها ؛ إذ لم يكونوا عالمين بباطنها ولذلك قالوا : وما كنا للغيب حافظين فكان في الظاهر لما وجد الصاع في رحله أنه هو الآخذ له فقالوا : وما شهدنا إلا بما علمنا يعني من الأمر الظاهر لا من الحقيقة . وهذا يدل على جواز إطلاق اسم العلم من طريق الظاهر [ ص: 392 ] وإن لم يعلم حقيقة ، وهو كقوله : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ومعلوم أنا لا نحيط بضمائرهن علما وإنما هو على ما يظهر من إيمانهن . وقد قيل في قوله : وما كنا للغيب حافظين معنيان :

أحدهما : ما روي عن الحسن ومجاهد وقتادة : " ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق " ، والآخر : ما قدمنا ، وهو أنا لا ندري باطن الأمر في السرقة .

فإن قيل : لم جاز له استخراج الصاع من رحل أخيه على حال يوجب تهمته عند الناس مع براءة ساحته وعم أبيه وإخوته به ؟ قيل له : لأنه كان في ذلك ضروب من الصلاح ، وقد كان ذلك عن مواطأة من أخيه له على ذلك وتلطف في إعلام أبيه بسلامتهما ، ولم يكن لأحد أن يتهمه بالسرقة مع إمكان أن يكون غيره جعله في رحله ، ولأن الله تعالى أمره بذلك تعريضا ليعقوب عليه السلام للبلوى بفقده أيضا ليصبر فيتضاعف ليعقوب عليه السلام الثواب الجزيل بصبره على فقدهما .

وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله : فلما جهزهم بجهازهم إلى قوله : كذلك كدنا ليوسف دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق ؛ وذلك لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره ، وقال في آخر القصة : كذلك كدنا ليوسف ومن نحو ذلك قوله تعالى : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وكان حلف أن يضربها عددا ، فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وضربها به ليبر في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها . ومن نحوه النهي عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعريض . ومن جهة السنة حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل تمر خيبر هكذا ؟ فقال : لا والله ، إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، قال : فلا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا ، كذا روى ذلك مالك بن أنس عن عبد المجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة فحظر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم التفاضل في التمر وعلمه كيف يحتال في التوصل إلى أخذ هذا التمر . ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهند : خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف . فأمرها بالتوصل إلى أخذ حقها وحق ولدها . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا ورى بغيره .

وروى يونس ومعمر عن الزهري قال : أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان بن حرب أن ائتونا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم ، فسمع ذلك نعيم بن مسعود وكان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 393 ] وكان عند عيينة حين أرسلت بذلك بنو قريظة إلى الأحزاب أبي سفيان وأصحابه ، فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وما أرسلت بنو قريظة إلى الأحزاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلنا أمرنا بذلك فقام نعيم يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث ، فلما ولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهبا إلى غطفان قال عمر : يا رسول الله ما هذا الذي قلت إن كان أمرا من أمر الله فأمضه وإن كان هذا رأيا رأيته من قبل نفسك فإن شأن بني قريظة أهون من أن تقول شيئا يؤثر عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هذا رأي إن الحرب خدعة .

وروى أبو عثمان النهدي عن عمر قال : " إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب " .

وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : " ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم " . وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه للملك حين سأله عن سارة فقال : من هي منك ؟ قال : هي أختي لئلا يأخذها ، وإنما أراد أختي في الدين وقال للكفار : إني سقيم ، حين تخلف ليكسر آلهتهم ، وكان معناه : إني سأسقم يعني أموت ، كما قال الله تعالى : إنك ميت فعارض بكلامه عما سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحق فيه الكذب . فهذه وجوه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالاحتيال في التوصل إلى المباح ، وقد كان لولا وجه الحيلة فيه محظورا وقد حرم الله الوطء بالزنا وأمرنا بالتوصل إليه بعقد النكاح وحظر علينا أكل المال بالباطل وأباحه بالشرى والهبة ونحوها ، فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظورا من الجهة التي أباحته الشريعة فإنما يرد أصول الدين وما قد ثبتت به الشريعة .

فإن قيل : حظر الله تعالى على اليهود صيد السمك يوم السبت فحبسوا السمك يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فعاقبهم الله عليه . قيل له : قد أخبر الله تعالى أنهم اعتدوا في السبت ، وهذا يوجب أن يكون حبسها في السبت قد كان محظورا عليهم ، ولو لم يكن حبسهم لها في السبت محرما لما قال : اعتدوا منكم في السبت

التالي السابق


الخدمات العلمية