الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 2 ] باب التيمم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء ، وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا ؛ لأن قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط فيه بيان حكم الحدث ؛ لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض ، وكانوا يقضون الحاجة هناك ، فجعل ذلك كناية عن الحدث . وقوله : أو لامستم النساء مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء لما يستدل عليه إن شاء الله تعالى . وقد دل ظاهر قوله : وإن كنتم مرضى على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم ، لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى ؛ فروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين : ( أنه المجدور ومن يضره الماء ) ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء . وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا ؛ وذلك لأنه تعالى قال : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء ، وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض ، من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض ؛ لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة ؛ إذ لا تأثير للمرض في إباحة التيمم ولا منعه ؛ إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء .

فإن قيل : إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر ؛ إذ لو كان واجدا للماء لما أجزأه التيمم ، لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء . قيل له : إنما ذكر المسافر ؛ لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر ، فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء [ ص: 3 ] فيها في الأعم الأكثر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب ؛ لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك ، وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز ؛ لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال : في خمس وعشرين بنت مخاض ولم يرد به وجود المخاض بأمها ، وإنما أريد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني ؛ لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر ، فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا . وليس كذلك المريض ؛ لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء ، فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء . وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما روي عن السلف واتفاق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له التيمم ، ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد : ( ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر ) . وقد روي في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد ، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره . وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد ، فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له ؛ وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد . وقوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط فإن ( أو ) هاهنا بمعنى ( الواو ) ، تقديره : وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة ، وإنما قلنا إن قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى ( الواو ) ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر ، فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث ؛ ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين ، فوجب أن يكون قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى : وجاء أحدكم ، كقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه : ويزيدون ، وكقوله : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه : غنيا وفقيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية