الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول علي لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإن سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وروي عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث توبة وعن أبي بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روي عنه الرجوع إلى قول علي كرم الله وجهه .

وقال مالك والشافعي تقطع اليد اليسرى بعد الرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروي عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهم قتلوا سارقا بعدما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له عمر السنة اليد .

وروى عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده [ ص: 72 ] اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذين يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حلي أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له ما لك قال وجدني خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إني لأراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم لو تعارضا لسقطا جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شيء ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى .

فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد يد ورجل قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روي عن عمر ثم روي عنه الرجوع عنه .

وقد روي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعدما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف ؛ لأنه لم يذكر قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى فاقطعوا أيديهما وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف ؛ إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن [ ص: 73 ] اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذا الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى .

ومن جهة أخرى أنه لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان منفعة البطش وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل فإن قال قائل قوله عز وجل فاقطعوا أيديهما يقتضي قطع اليدين جميعا ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له .

أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا ؛ لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الاثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يدا واحدة من كل واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة ؛ إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية